تحقيقات وتقارير

(جيل الإنقاذ).. سر الاحتجاج!


أوقفت السلطات في 13 يناير الماضي الشاب العشريني محمد ضمن المعتقلين في احتجاجات بحري ضمن موكب دعا له تجمع المهنيين للمطالبة بتنحي النظام.. قصة محمد عادية مثل قصص العديد من الشباب الذين تم اعتقالهم في الحراك الشعبي الذي انطلق في 19 ديسمبر، إلا أن صحيفة (لحظة) الإلكترونية انفردت بخبر نشر لاحقاً بالصحف الورقية أن المعتقل هو نجل نائب الرئيس السابق علي عثمان محمد طه.

نفي وإثبات
نائب أمين قطاع الطلاب بالمؤتمر الوطني هاشم القصاص ينفي في حديثه لـ(السوداني) مشاركة نجل علي عثمان طه في الاحتجاجات ويقول إنها مجرد إشاعة يسارية في إطار حملة تستهدف طه بوصفه رمز إسلامي، مضيفاً: “لم يثبت لنا مشاركة نجل طه في الاحتجاجات.”
المؤتمر الوطني أقر بوجود بعض أبناء قيادات الوطني ضمن الاحتجاجات، وقال الأمين السياسي للمؤتمر الوطني عمر باسان في تعليقه على خروج بعض أبناء قيادات الوطني في المظاهرات: “هم شريحة من أبناء الشعب السوداني وموجودون حيث وجد الشعب، والواجب علينا الالتفات لهذه الأصوات التي عبرت عن نفسها من خلال الاحتجاجات ويجب التعامل معها بصورة تضمن سلامة المتظاهرين والبلاد وألا تتحول المظاهرات إلى ما يعيق التطور السياسي”.
الكاتب الصحفي والمحلل أسامة عبد الماجد يرجع في حديثه لـ(السوداني) مبررات مشاركة أبناء القيادات لعامل مشاركة الزملاء والأصدقاء وروح المغامرة أكثر من كونه إرادة حقيقية لإسقاط النظام الذي يقوده أولياء أمورهم.
عبد الماجد يرى أن هناك فجوة بين القيادات وأبنائهم لانشغالهم بالعمل العام، فيما يفترض أن يوفر التنظيم خاصة في الطلاب والشباب حاضنة اجتماعية لهم تحتويهم وتحصنهم فكرياً ومن أي نوع من الاختراق، مضيفاً :”درج التنظيم على الاهتمام بأبناء القيادات إلا أنه يبدو أن الفترة الأخيرة شهدت تراجعاً في هذا الصدد”.
غير أن القصاص يقول إن التنظيم يتعامل مع عضويته دون تمييز بين قيادات أو عضوية عادية والصف واحد ويقول من حقنا أن نراجع أبناء القيادات إذا كان لديهم موقف أو عدم إدراك للقضية وشاركوا بشكل تضامني مع أصدقائهم إلا أن إدراكهم لحقيقة التظاهرات التي تتبناها أحزاب معارضة لديها نوايا تخريبية كفيل بعدم مشاركتهم.
القصاص يلفت إلى أن الحوارات لا تتوقف عن أبعاد الضائقة الاقتصادية والحلول التي وضعت لمعالجتها والتحديات وكيفية تجاوزها.

حال انقلاب
“لم تكن الصورة ناقصة بل زائفة”.. هكذا أدرك الشاب محمد صالح حقيقة الوضع بعد الانفتاح التكنولوجي والسياسي الذي شهده السودان مطلع الألفية الجديدة، صالح ينتمي لأسرة ميسورة الحال ليس لديها انتماء سياسي مثل العديد من الأسر السودانية، والعمل السياسي حسب تصورها جالب للمتاعب أكثر من أي شيء آخر سواء كان مع الحكومة أو ضدها، ولكنه مع ذلك خالف إرادة أسرته والتحق خلال سنواته الجامعية بالتنظيم الطلابي التابع للمؤتمر الوطني الذي كان قد خرج لتوه من مفاصلة وانشقاق قاسٍ.
يشير صالح الذي كان في الثالثة من عمره عندما وصلت الإنقاذ للسلطة في 30 يونيو 1989 إلى أنه نشأ في مناخ إعلامي وتعليمي مشبع بالدعاية الإعلامية حيث وظفت وسائل الإعلام المختلفة لتمجيد النظام الحاكم والنيل ممن وصفوا بأعداء الدين والوطن، لذلك كان خياره واضحاً بالانحياز لها.
يصنف صالح نفسه حالياً ضمن خانة المطالبين بتغيير النظام الذي ولد وتربى في عهده وعاش سنوات من عمره داعماً له بجهده وماله، يقول صالح: “أنا أقع في خانة المطالبين بالتغيير، بعد أن فشل النظام الحالي في تحقيق المشروعات الكبرى كالوحدة الوطنية والسلام والتنمية”، ويختم صالح حديثه ويقول: “لا يمكن للجيل القادم أن يعيش بنفس الطريقة التي عشنا بها، من حق الأجيال القادمة أن تعيش تجربة جديدة”.

خطورة تفضي لحوار
في ذات الوقت استشعرت قيادات الحزب الحاكم خطورة الأمر منذ سنوات قبل اندلاع الاحتجاجات الحالية وتسعى الآن لإدارة حوار مع الشباب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويقول نائب رئيس الحزب للشؤون التنظيمية فيصل حسن إن الوطني يواجه تحديات في مجال استقطاب الشباب. وأضاف في تصريحات سابقة أن اهتمامات هذا الجيل ليست كاهتماماتنا. وأضاف: “إذا ظللنا نعمل بالطريقة التقليدية سنفقد هذا الجيل وسيخرج منا الجيل الذي ولد في عهد الإنقاذ وربيناه وعلمناه، وعلينا أن نبحث كيف يمكن أن نحافظ عليه”.
نبؤة فيصل تحققت الآن و(جيل الإنقاذ) الذي ولد وتربى على أيديها يخرج عليها منادياً بإسقاطها دون أية رغبة في الحوار رافعاً شعار: “تسقط بس” الذي يعبر عن قطعية ولا ينظر إلى ما بعد السقوط معبراً عن جيل لم يرث سوى الفكر الإقصائي المُغلق، مما خلق عقولاً غير قابلة للمُساومات ولا ترضى بالتنازلات، فلن تصل إلا لمعادلات صفرية.
الناشط في قضايا الشباب عبد الله حلة يلفت إلى أن الحزب الحاكم اعتمد على حشد الشباب بخطاب ديني حماسي أغفل الجوانب الفكرية، ويرى حلة أن هذا الخطاب قد يكون نجح في حشد الكثير من الكوادر إلا أنه في المقابل فشل في الحفاظ على ولائهم لوقتٍ طويل، ويشير حلة إلى أن معظم من التحقوا بالحزب تفاجأوا بضعف المشروع فكرياً فباتوا أمام ثلاثة خيارات أولها يتعلق بالتمتع بامتيازات السلطة وغض الطرف عن بقية الأمور، أما ثانيها هو الابتعاد عن المشروع والزهد فيه، أما الخيار الثالث فهو لمجموعة تسعى لحمل أحلامها ومشاريعها المعطلة في دولة إسلامية عادلة لتنظيمات أخرى قد تصل لتنظيم الدولة (داعش).
فيما يرى أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم د. عصمت محمود أن الوطني يواجه أزمة حقيقية في استقطاب الشباب الذين يشكلون نحو 65% من نسبة السكان، ويلفت إلى أن ذلك يظهر في حجم الكوادر المستقطبة مقابل المناوئة له، إلى جانب حركات الاحتجاج، بل إن حالة الرفض امتدت لتصل حتى بيوت القيادات الكبيرة من الحزب الحاكم ليجدوا أبناءهم من أبرز معارضيهم.

صورة مغايرة
من جهة أخرى تسعى القيادات الشابة بالوطني لرسم صورة مغايرة، مؤكدة أن الوطني هو الرقم الأول في الأوساط الشبابية وأن الأمر قد يستدعي إجراء بعض التحديثات على وسائل الاستقطاب.
فالوطني طبقاً لقياداته في أفضل حالاته.. عضويته في الجامعات تتجاوز في الوقت الحالي 700 ألف فضلاً عن مساندة كبيرة. من الطلاب لخطابه. ويقر الوطني في ذات الوقت بأن وسائل الخطاب تحتاج بعض التعديل لتتواءم مع متطلبات العصر، مؤكداً أن الخطاب يلائم الجيل الجديد من الشباب وكذلك العمل التنظيمي الذي يقدم نموذجاً جيداً في الجامعات.
فيما يقدم أستاذ الفلسفة عصمت محمود تحليلاً مختلفاً، فهو يرى أن الإنقاذ فشلت في استقطاب من نشأوا في عهدها لاعتبارات تتعلق بطبيعة الخطاب وآلياته ودعاته، ويوضح محمود حديثه أكثر ويقول إن خطاب الإنقاذ اعتمد على المؤسسة العسكرية وأدبياتها المغلظة في الضبط والربط والالتزام وإبراز عاطفة جياشة تجاه الفداء والتضحية. ويضيف محمود أن هذا الخطاب كان سطحياً وغير مؤثر لا سيما وأنه اتسم بالتشنج ومحاولة إعادة إنتاج الشخصية السودانية وفقاً لتصورات الحاكمين، الأمر الذي أدى لنتائج عكسية قادت لنفور عام منه خاصة من فئة الشباب، ويمضي محمود في تحليله ويضيف تفاقم حالة الرفض للمشروع بفعل سياسات النظام خاصة مع حملات التجنيد الإجباري (كشات الخدمة الوطنية)، الممارسات العنيفة تجاه معارضيهم في الجامعات، فضلاً عن ضعف سياسة التوظيف واتهامات بعدم وجود فرص عادلة لكل الشباب.

آليات ووسائل
وفيما يتعلق بالآليات يرى محمود وفقاً لتحليله أن الوطني يدير قطاع الطلاب والشباب بعقلية الثمانينيات وهو أمر لم يعد مواكباً لتطورات العصر، ويقول أيضاً هذه العقلية لن تتفهم روح الرفض لكل ما يكبت الحرية، وروح الصدق والكرامة التي لا تتأثر كثيراً بأساليب الترغيب والترهيب، علاوة على غياب القدرة على الإبداع ومخاطبة حاجات الشباب وهو ما ظهر في عجز الوطني في تقديم مبادرات طوعية وشبابية جاذبة رغم الإمكانات الكبيرة المتوفرة له، ويختم محمود حديثه بالإشارة إلى غياب القيادات الجاذبة التي تمثل قدوة ومنارة للجذب، ويقول: “ما دفعنا في وقت سابق للانضمام للحركة الإسلامية وجود قيادات بصفات الملائكة كعبيد ختم، أو في فروسية علي عبد الفتاح، أو في صلاح وتقوى شيخ عبد الكريم، فأين هو النموذج الآن؟!”.
وليس بعيداً عما سبق يقول المحلل السياسي د. الحاج حمد محمد إن الحركة الإسلامية فشلت في مرحلة الدولة فيما نجحت فيه في مرحلة الثورة، ويضيف أن هؤلاء الشباب بحاجة لمهارات ووظائف ولكن الواقع الاقتصادي متردٍ بفعل السياسات، ولَك أن تعلم أن سياسات التعليم أفرزت خريجين بنحو 20 ضعف قدرة سوق العمل.
لم يقتصر الأمر على سوق العمل أو جودة التعليم بل امتد بشهادات قيادات في الدولة لسياسات تنتهك حرية وكرامة الشباب بدءاً من التسلط على مظهرهم خاصة بعد حملات حلاقة إجبارية من قبل (مجهولين) انتحلوا صفة القوات النظامية – حسب تصريحات رسمية -، فضلاً عن بيع الميادين في الأحياء وأخيراً إغلاق المقاهي الشعبية، فيما أسهم الانفتاح التكنولوجي في زيادة إحباط الشباب وهم ينظرون لما وصل إليه العالم من حولهم.
يتفق المهتم بمجال علم الاجتماع السياسي مدني عباس مع الرأي القائل أن ما بات يعرف بجيل الإنقاذ تمرد على كل النادي السياسي القديم، إلا أنه يقول أيضاً إن الوطني هو أقل الأحزاب قدرة على جذب هذا الجيل المتمرد، وأن ما يمارسه أحياناً من تصعيد قيادات شابة لمواقع رفيعة يبدو كترميز يتم استغلاله عادة في إطار تصفية قيادات فاعلة.
ويرى عباس أن وعي هذا الجيل تأسس على المعاناة وعدم رعاية الدولة لهم في المؤسسات التعليمية عبر الأنشطة التعليمية والثقافية المناسبة، ويضيف عباس: “هذا الجيل لم يشهد المكتبة أو المسرح المدرسي أو الاتحادات المدرسية، ولكنهم في المقابل الجيل الذي شهد التطور التكنولوجي والانفجار المعلوماتي فانفتح على العالم أكثر لا تكبله قيود”، ويلفت عباس إلى أن هذا الجيل يتفاعل مع القضايا العالمية ويستفيد من التجارب الإنسانية في تطوير مهاراته ووسائل تواصله وعرض قضاياه وهمومه بعيداً عن الرقابة والوصاية وبات قادرًا على قدراته لخلق مبادراته الخاصة في العمل السياسي الخيري والتنموي والثقافي. ويزيد عباس أن ذات الجيل فرض الآن على المجتمع اعتماد رموزه الفنية والثقافية والاجتماعية وهو ما يجعل من القريب جداً اعتماد رموزه السياسية.
فيما يقول المهتم بعلم النفس السياسي خالد خليل في حديثه لـ(السوداني) إن الجيل الحالي أسس لقيمه ومقارباته وتعاطيه مع الواقع على النقيض تماماً من تصورات الدولة التى لم يسعفها تعليمها ولا إعلامها ولا مؤسساتها في إعادة إنتاج هذا الجيل داخل الجلباب القيمي لمشروعها السياسي. ويضيف خليل: “بدا هذا واضحاً في اختيار قطاع واسع منهم للفنان محمود عبد العزيز كأيقونة تعبر عن الخروج عن السرب فناً وسلوكاً ومظهراً”، ويشير خليل إلى أن هذا الجيل تقوم خصائصه النفسية على المغايرة والتمرد على الأُطر الجاهزة، وما يميز هذا التمرد أنه ليس نزوة عابرة تشي بهشاشة في النضج وإنما كفلسفة حياة جعلته على الضد من الانخراط في المؤسسات الحزبية ككل وليس الحزب الحاكم فقط.
ويرى خليل إن المؤسسات الحزبيه بطبيعتها الجامدة وبأطرها المتكلسة وبيروقراطيتها المميتة لا يمكن أن تكون خياراً عقلانياً لجيل يقوم رهانه الأساسي على التحليق خارج هذا القفص الحديدي، وهو ما يضع كل المنظومة الحزبية في السودان في مأزق حقيقي حيال رفد هذه الأحزاب بكوادر تنعش العمل الحزبي وتخرجه من وضعية (المساطب الجانبية) في فضاء العمل العام التي تعج بالثرثرة والنستولوجيا.
يستعد الآن الصيدلي محمد صالح للاحتفال بعيد ميلاده الثالث والثلاثين خلال الأسابيع القادمة في ظل شعور بالإحباط لما حققه خلال حياته حتى الآن صحيح أنه تخرج بدرجة علمية جيدة، ويشغل حالياً وظيفة يحسده عليها نظراؤه، إلا أن ذلك لم يكن سوى جزءٍ يسيرٍ من أحلامه في وقتٍ سابق. يقول صالح إنه ينتمي لجيلٍ “اتنشل”، ويوضح حديثه أكثر ويقول: “لقد سرقت أحلامنا قبل أعمارنا”.

صحيفة السوداني.