سياسية

دعم السِّلع الاستراتيجية.. بين (كسر) الحكومة !!


المُتابع يلحظُ أنّ خطاب الحكومة في الآونة الأخيرة (أسرف) في عبارة دَعمها للسِّلع الاستراتيجية كالوقود بمُختلف مُشتقاته والغاز ودقيق الخُبز، وقد ضَرَبَ رئيس الوزراء، وزير المالية معتز موسى؛ مثلاً بأنَّ الحكومة تشتري ناقلة النفط بـ(40) مليون دولار في الأسبوع وعائد بيعه (4) ملايين دولار. أما فيما يلي الخُبز فإنّها تدعم جوَّال دقيقه بـ(680) جنيهاً أي ما يُعادل (35) مليون جنيه تخسره الحكومة يومياً لدعم هذه السلعة. وبالطبع هذا خلاف سلع أُخرى تقول الحكومة إنها تدعمها مثل الدواء وغاز الطبخ.. معتز موسى لخَّص (المسألة) بتأكيده أنَّ الحكومة في سبيل توفير هذه السلع ظلَّت تُمارس (بيع الكسر)، وأنَّ كل من سَلكَ هذا الطريق كان مصيره (سجن الهُـدى)!!

الأسئلة التي نودُّ أنْ نبحث لها عن إجابات؛ هي: لماذا (تكسر) الحكومة؟ وحتَّى متى؟
عبارة وشرحها..
إنْ جاز لنا الانطلاقة بـ(تفكيك) عبارة رئيس الوزراء معتز موسى، التي قال فيها: (نتعامل بتجارة الكسر في الوقود ونشتري باخرة البنزين بقيمة 40 مليون دولار أسبوعياً ونبيعها بـ 4 ملايين.. وانتو عارفين أيِّ زول كسر في البلد دي مشى سجن الهُـدى).
يقول مدير عام قطاع الاقتصاد وشؤون المستهلك بوزارة المالية ولاية الخرطوم د. عادل عبد العزيز، إنَّ عملية الكسر المُمارسة في السوق هي بيع السلعة بأقل من ثَمن شرائها بقصد الحُصُول على نقودٍ كاش يتم تَوظيفها في عمليات تجارية أُخرى.. وغالباً ما ينتهي الأمر بالنسبة لمن يمارس الكسر بعقوبة السجن أو الحبس لحين السَّـداد في السجون والتي أشهرها سجن الهُـدى غربي مدينة أمدرمان.. ومَضَى عبد العزيز بحديثه لـ(السوداني) إنّ رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية معتز استخدم تعبير الكسر مَجازاً عند وصفه لعملية دعم الوقود التي تُنفِّذها الحكومة، وصولاً إلى تأكيده أنّ من يُمارس الكسر مصيره سجن الهُـدى، وكأنَّه يقول إنّ الحكومة لو كَانَت شَخصاً طَبيعيّاً من لحمٍ ودم لكان مَصيرها سِجن الهُـدى، وهو بهذه المُقَارَنَة التي عَقَدَها رَمَى بالقول إنّ دعم الحكومة للوقود بالطريقة المُمارسة حالياً ليس فيه رُشدٌ.

اعتباراتٌ سياسيّةٌ!!
وبالانتقال لمصطلح (الدعم) في أبسط معانيه، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. عبد الحميد إلياس، هو أن تشتري سلعةً ما بسعرٍ مُعيَّنٍ ثُمّ تبيعه بآخر أقل منه، وأضاف في حديثه لـ(السوداني) أنَّ دعم بعض السلع سياسة تتبعها جُل دول العالم إن لم نقُلْ كلها، وهو واجبٌ وليس مِنَّةً، حتى تُكرِّره الحكومة – أي حكومة – على شعبها. لكن السؤال هو: هل تسلُك الدول نفس منهجنا فيما يلي الدعم؟ جيب د. “إلياس” على استفهامه بأنّ الفرق بيننا هو أنّ الدول لا تجعله (مطلوقاً) كَمَا هُو الحَال هُنا، بل ترشِّده وتُقنِّنه حتى يذهب مُباشرةً لمُستحقيه على وَجه الدِّقة والتّحديد، وخير برهان التّجربة المصرية التي تُملِّك أيِّ مُواطن بطاقة تموين تحوي سلعاً بعينها مدعومة من جانب الحكومة، مُشيراً إلى أنّ ما تُمارسه الحكومة الآن هو إهدارٌ لموارد البلاد المحدودة أصلاً، وبالتالي بدلاً من أن تَهدر الحكومة كُل وقتها في (تشغيل أسطوانة) دعم الوقود والدّقيق، ينبغي عليها أن تَسعى جَاهدةً اليوم قبل الغَد في امتلاك آلياتٍ بحثيةٍ مُتطوِّرةٍ تُمَكِّنها من تَوجيه الدّعم لمُستحقيه فقط، وأشار إلياس إلى أنّ أبلغ وأقوى دليلٍ على إهدار موارد الدولة هو دَعم الحكومة للبنزين؛ في حين أنّ هذا الدّعم كان يُفترض أن يذهب لدعم تعليم المساكين.
وبسؤالنا له عن الدافع الذي يجعل الحكومة تَمضي في هذا الطريق الشّائك حسبما أَكّدَ مسؤولون بها، قال د. عبد الحميد إلياس إنّ هذه الخطوة ربما تعود إلى اعتباراتٍ سياسيةٍ.
(400) شركة حكومية غير مُنتجة!!
من جهته، قال وزير الدولة بالنفط (الأسبق) –رئيس شُعبة النفط بالبرلمان – المهندس إسحق بشير جمَّاع لـ(السوداني)، إنَّ الحكومة تشتري لتر الجازولين بـ(30) جنيهاً وتبيعه للمَحَطّات بـ(4) جنيهات لأنّها تعتمد تسعيرة قديمة، تدحرج سعر الصرف خلالها وصولاً إلى (47.5) جنيه للدولار الواحد – حسب سعر الآلية – وبالتالي اتّسعت دائرة الدعم وازدادت الخسارة الواقعة على الحكومة، واستدرك جمَّاع بقوله: لكن حتى نكون (أمينين)، فالحكومة تدفع هذا الدعم من الإيرادات المُباشرة وغير المُباشرة التي تتحصَّل عليها من المُواطنين مثل الضرائب والجمارك وغيرهما، مُؤكِّداً أنّ انتهاج (سياسة) الدعم تمثِّل خَطأً كبيراً وتُشوِّه الاقتصاد، لأنَّ الصحيح هو ذهاب هذا الدّعم لمشروعات التّنمية الزراعيّة والصناعيّة وورفع طاقة الاستثمار، وأشار إلى أنّ الحكومة كي تتفادى هذه الخسائر المَهولة في فرق سعر الجازولين عليها أن تُخفِّض صرفها إلى أقل صُورةٍ مُمكنةٍ، وأضاف أنّ هنالك قَرَابة الـ(400) شركة حكومية غير مُنتجة وبالتالي الصرف عليها يُمثلُ خسارة، ليس ذلك فحسب، بل إنّ 70% من هذه الشركات لا تُقدِّم حِساباتها للمُراجع العَام، وعليه فالأجدى أن تذهب الأموال المُهدرة عليها لما ينفع العباد والبلاد.

تهريبٌ بالجُملة!!
مصدر بوزارة النفط قال لـ(السوداني) – طالباً حجب اسمه – إنّ السودان ينتج 40% من الاستهلاك المحلي للجازولين ويستورد 60%، مُؤكِّداً أنّ الاستهلاك في الفترة الأخيرة قفز بشكلٍ يدعو للدّهشة تَمَاماً، وأرجع سبب ذلك إلى أنّه كان يُوجد مكتب متابعة ورصد بكل ولاية (يتبع لوزارة النفط)، هذا المكتب مُهمّته الأساسية تحديد الكمية التي تَحتاجها كل ولاية على وجه الدِّقة، لكن قبل حوالي أربعة أعوام قام أحد الوزراء الذين تَعاقبوا على وزارة النفط بتجميد هذه المَكاتب، فأصبحت التقديرات تُحَدِّدها الولايات بنفسها، وهُنَا مَكمن الخُطُورَة، لا سيّما في الولايات الحُدُودية حَيث ينشط التّهريب بصُورةٍ مُكثَّفةٍ، وتبعاً لذلك يزداد الاستهلاك الذي تدفع ثمنه الحكومة، في ظل ضعف الرِّقابة خُصُوصَاً بالولايات. وبسؤالنا له عن مدى قُدرة الحكومة على المُواصلة في بيع الكسر أو الدّعم لسلعتي الوقود والدقيق، أَكّدَ المصدر استحالة ذلك، لأنّ الفرق بين السعر الذي تدفعه الحكومة لشراء الوقود والدقيق، والآخر الذي تبيع به هاتين السِّلعتين للمُستهلكين يزداد باستمرار ويُخلِّفُ خسائر بالمليارات يومياً، ولذا على الحكومة أن (تُمرحِل) تمويل الجَازولين للزراعة بحيث تستلم كل ولاية حِصّتها على دفعاتٍ حسب حاجة المحصول الزراعي في كُلِّ مرحلةٍ، شريطة أن يتم ذلك وفقاً لإحصائيات دقيقة ومُنضبطة.. أيضاً على الحكومة أن تُوجِّه (الفيرنس) للمَصانع وليس لرصف الطُرق الداخلية، لأنّ إنتاج المصانع إذا ارتفع فمُستقبلاً يُمكن أن يَسهم في رَصف كُل طُرق السُّودان، أمّا الآن فالأولوية للإنتاج والإنتاجية وهذه تأتي بدعم الزراعة والصناعة.

عدم رُشـد
مدير قطاع الاقتصاد وشؤون المُستهلك بوزارة المالية بالخرطوم، عاد ليُؤكِّد اتّفاقه مع معتز موسى في أنّ الدعم السلعي بالطريقة المُمارسة حالياً ليس فيه رشد ٌوهو مُضرٌ بالاقتصاد وذلك بسبب أن الدعم يُطبّق على كل الناس المُحتاجين للدعم وغير المُحتاجين له، حيث يستفيد من الدعم حالياً الأجانب وأصحاب الدخول العالية وهذا أمرٌ ليس فيه رشدٌ، ويجب أن يُوجّه الدعم للسُّودانيين المُحتاجين فقط دون غيرهم.!
لأسبابٍ سياسيةٍ، الحكومة مُستمرة في الدعم بصُورته المُشوّهة هذه، ولكن يرى الكثير من الاقتصاديين أنّ على الحكومة الإسراع في عملية إعادة تَوجيه الدَّعم عن طريق الحِصص واستخدام البُطاقات التّعريفيّة وغيرها من وسائل ضبط الدعم.
فيما يتعلّق بالدقيق المُستخدم في صناعة الخُبز، فإنّ الحكومة تدعم أيِّ جوالٍ بمبلغ 680 جنيهاً، وبما أنّها تدعم 100 ألف جوال يومياً لاستهلاك الخُبز، فإن جملة الدعم الذي تقدمه الحكومة لدقيق الخُبز هو مبلغ 68 مليون جنيه يومياً.
الدَّعم لدقيق الخُبز بُني على أساس أن يصل جوال الدقيق للمَخبز بسعر 550 جنيهاً ليستمر بيع قطعة الخُبز للمواطن بجنيهٍ واحدٍ، بناءً على هذا تدفع الحكومة الفرق ما بين سعر جوال الدقيق عند باب المطحن وهو 1230 جنيهاً والسعر الذي ترغب أن يصل به الجوال للمخبز وهو 550 جنيهاً.. الفرق هو 680 جنيهاً في كل جوال كما أسلفنا.
المطاحن التي حَدّدَت التكلفة التجارية لجوال الدقيق، بَنَت حساباتها على أسعارٍ حقيقيّةٍ في السُّوق العالمي.. وقد قامت الحكومة مُؤخّراً بطرح عطاءات لاستيراد دقيقٍ جاهزٍ، وسوف نرى عند التنفيذ هل يوجد ثمة فرق بين السعرين أم لا؟
لا أعتقد أنّ هناك مافيا مُستفيدة من الدعم، إنّما المُشكلة الحقيقيّة هي في الانخفاض المُستمر لقيمة الجنيه السوداني أمام العُملات الحُرة الأُخرى!!
سُـؤالٌ مُهـمٌ جِـدّاً
لكن المُحلِّل الاقتصادي د. محمد الناير بدأ حديثه لنا بسُؤالٍ واضحٍ هو: ما الذي (ولَّدَ) الدعم أصلاً؟ ثُمَّ تكفَّل بالرَّد قائلاً: فشل الأداء الاقتصادي من قِبَل المسؤولين هو الذي (ولَّد) هذا الدّعم (المَزعوم)، بل جَعله يَتَضَاعف مرّاتٍ ومرّاتٍ، لأنّ قيمة الجنيه تَراجعت خلال سنوات؛ حتى وفقاً للسعر الرسمي عشرين ضعفاً، حيث فقز سعر الدولار من (2.30) جنيه إلى (47.50) جنيه (سعر الآلية)، أمّا في السُّوق المُوازي فتراجع سعر الجنيه حوالي ثلاثين ضعفاً، لأنّ سعر الدولار تخطَّى حاجز الـ(60) جنيهاً.
وقال د. الناير، إنَّ (أسطوانة) دعم الدقيق والوقود والغاز التي ظلّت تُردِّدها الحكومة على شَعبها باستمرار، ليست دقيقة وتفتقر للمصداقية، لأنّ الحكومة إنّما تدعم هذه السلعة الاستراتيجية من موارد الدولة التي هي مِلْكٌ للشعب وليس لها، هذه النقطـة مُهمّـة جـدّاً والأهم منها أنّ الحكومة (تتحصَّل) من الشعب ذاته، ضرائب وجمارك وَرُسُوماً بالجُملة، ومُقابل كل ذلك تدعم سلعاً تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، في حين أنّ هذا الشّعب يحترق بنيران عشرات السلع والخدمات غير المدعومة.. وأكّد د. مُحمّد أنّ (مسألة) الدعم هذه لا ولن تحل مُشكلة الاقتصاد لأنَّ هذه الحكومة (جرَّبتها) حوالي أكثر من ست مرات ولم تأتِ لها بأيِّة نتيجة، بل زادت الطين بله، مُنوِّهاً إلى أنّ الحل يكمن في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وهذا لا يأتي بزيادة الإنتاج والإنتاجية وطريقهما واضحٌ جداً هو مُحاسبة المُقَصِّرين من المسؤولين مهما علا شأنهم، ومُحاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه وتطوير البحث العلمي.

صحيفة السوداني.