الخروج من (الكتمة) الحالية التفكير خارج الصندوق
التظاهرات والاحتجاجات الأخيرة والتي بدأت منذ 19 ديسمبر الماضي والتعامل الأمني فقط معها حجب الأسباب الحقيقية لاندلاع التظاهرات، والمتمثلة في ندرة السلع وارتفاع أسعارها، تدني الخدمات، عودة الصفوف الطويلة في محطات الوقود والمخابز، والشح غير العادي في السيولة، والصعوبة في سحب جزء منها من البنوك، والتضييق الكبير في الحريات السياسية والاجتماعية، ثم تنامي انخفاض سعر العملة الوطنية وزيادة كبيرة في العطالة وسط الشباب
كلها أسباب منطقية معقولة ومقبولة ومبررة لخروج المواطنين إلى الشارع بعد بلوغهم الحالة النفسية الخطرة (لا شيء أفقده) (I have nothing to lose) لذلك كان من الأصوب التعامل مع أسباب خروج المواطنين للشارع بأي وسيلة خلاف التعامل الأمني فقط، واستعمال القوة المفرطة التي أزهقت أرواحاً شابة عزيزة، مما جعل السودان في مجهر القنوات التلفزيونية العالمية ومنظمات المجتمع المدني الدولية المؤثرة، والتي أدت إلى صدور بيانات شديدة اللهجة، منددة بالاستعمال المفرط للقوة في مواجهة تظاهرات سلمية لمواطنين عُزل- بيانات من الاتحاد الأوروبي، الترويكا، الخارجية الأمريكية، الكونغرس الأمريكي والأمم المتحدة.. كان من الممكن تفادي كل ذلك إذا تم التصدي لهذه التظاهرات العلنية والتذمر الخفي لدى الغالبية العظمى من المواطنين بالمنطق والاعتراف بالمشكلة، والتركيز على الإفصاح عن خطط وبرامج عاجلة وآجلة مسكنة ومستدامة، تقنع المحتجين .. ماذا يضير لو ترك المحتجين ليعبروا عن معاناتهم بكافة الوسائل السلمية ومراقبتها فقط بواسطة الأجهزة الأمنية حتى تنفض الاحتجاجات بعد ساعات قليلة، وقديماً قال الراحل محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء الأسبق (تعالج أزمات الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية)، ونحن نقول (تعالج ثورات المواطنين السلمية بمزيد من الصبر، الاعتراف، الشفافية، المصداقية والمعالجة الواقعية بعيداً عن الوسائل الأمنية.
في رأينا أن أسباب الأزمة الاقتصادية ما زالت قائمة ولا نرى ضوءاً قريباً في آخر النفق، مما يرجح أن تستمر الاحتجاجات أو حتى إن خمدت بعد توفر الخبز والمواد البترولية والسيولة، ستعود بصورة أعنف وأكبر فور زوال الانفراج المؤقت الحالي بتوفر بعض السلع الضرورية، خاصة وإن تدهور سعر العملة الوطنية وارتفاع الأسعار متواصلان بوتائر ومعدلات كبيرة.
نجري تحليلاً عملياً وأمنياً لتلك الأسباب التي أدت إلى الخروج للشارع واقتراح حلول عملية لها:
أولاً: مواصلة تراجع سعر العملة الوطنية: كما ذكرنا في مقال سابق أنه ما لم يتلق الاقتصاد السوداني العليل جرعة أولية عاجلة منقذة للحياة، لا تقل عن خمسة مليارات من الدولارات، لن ينقشع خطر الإنهيار التام الداهم.. هذه الخمسة مليارات كافية لسد العجز في موازنة 2019م يمنح الحكومة مهلة معقولة للتعامل مع جذور المشكلة الاقتصادية بفكر وحلول مستدامة، تحت ضغط منخفض يبلغ 30 جنيهاً للدولار، مما يؤدي فوراً إلى انخفاض في الأسعار وتوفر السلع.. جرعة الخمسة مليارات من الدولارات العاجلة تتم بواحدة من وسيلتين لا ثالث لهما:
إما التحول الجذري العاجل والثابت في السياسة الخارجية، والانحياز إلى محور واحد من المحورين الإقليميين محور السعودية، الإمارات، الكويت ومصر المدعوم من أمريكا وأوروبا، وهو المحور المناوئ للحركة الإسلامية العالمية، أو محور قطر، تركيا، إيران المدعوم من روسيا.
أو غض الطرف عن الاقتصاد الخفي والسماح المؤقت للتعامل في الدولار والعملات الأجنبية، عبر منافذ الصرافات وتجار العملة.. وهذا تفكير خارج الصندوق مطلوب بشدة.. هذا الاقتصاد الخفي هو الذي سد الفجوة من شح النقد الأجنبي بعد انفصال الجنوب في يوليو 2011 حتى نهاية العام 2017.. بدأت الكارثة بميزانية 2018 ومنشورات بنك السودان التي صاحبتها، والتي قفلت كل قنوات تدفق العملات الأجنبية دون طرح البديل، مما أدى إلى تدهور مريع في حركة الواردات والصادرات، التي بدورها عمّقت الأزمة وأقعدت الصناعة والتجارة والصادرات.. أوضح مثال لنجاح اقتصاد السوق الخفي هو في دولة جيبوتي، التي لا تملك واحداً على مائة من ثروات السودان، لكنها لم تمر بأي أزمة اقتصادية، والسلع متوفرة بأسعار في مقدور مواطنيها.. كل العملات الأجنبية معروضة علناً في السوق حتى في سوق الخضار، مقارنة بسيطة بين السودان وجيبوتي اقتصادياً تؤكد حديثنا- (مأخوذة من كتاب حقائق العالم بواسطة (CIA -للعام 2017م:
الناتج القومي الكلي: جيبوتي 3.64 بليون دولار، السودان 177 بليون دولار، معدل النمو جيبوتي 6.7% الدولة رقم 26 في العالم، والسودان 1.4% بالرقم 177 دولياً..
نسبة السكان تحت خط الفقر جيبوتي 23%، السودان 60%، معدل التضخم جيبوتي0,7%، السودان 68%، احتياطي النقود الأجنبية جيبوتي 548 مليون دولار، والسودان 198 مليون دولار، والدين الخارجي جيبوتي 1.9 بليون دولار، والسودان 57 بليون دولار، عدد السكان جيبوتي 900 ألف نسمة، السودان 40 مليون، المساحة جيبوتي 23 ألف كيلو متر مربع، والسودان مليون وثمانمائة ألف كلم مربع.. لا يمكن ولا يعقل أن نقيد الاقتصاد السوداني ونلقيه في اليم، ونقول له إياك إياك أن تبتل بالماء، ونحن حالياً لا نرى أرضاً قريبة ثابتة يابسة نقفز لها، لتخرجنا من الوحل الذي نحن فيه الآن.
ثانياً: ضخ عملة جديدة بكميات كبيرة بهدف القضاء على شح (الكاش) في ظل القنوات المغلقة في وجه تدفق العملات الأجنبية خاصة من المغتربين، سيؤدي مباشرة إلى ارتفاع كبير في أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه؛ لأن الكتلة النقدية المثالية في أي اقتصاد تحسب بدقة متناهية في معادلات بالغة التعقيد، أهم عناصرها الناتج القومي ومعدل النمو وسعر الفائدة.
كما معلوم الناتج القومي هو حصيلة النشاط الاقتصادي في الدولة، المتمثل في حركة الصادر والوارد والصناعة والزراعة والخدمات، وكلها تحتاج إلى توفر الكتلة النقدية، ومعدل النمو يساعد في تحديد حجم الكتلة النقدية لفترة طويلة، وسعر الفائدة المرتفع يساعد في خفض تداول العملة، إذ يميل المواطن إلى الإحتفاظ بكل فائض من أمواله في البنوك والسندات الإدخارية.
عليه فإن طباعة عملة جديدة وطرحها للتداول دون سحب العملة القديمة، يؤدي إلى إخلال وتشويه كبيرين في الحجم المثالي للكتلة النقدية، يؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي.
الكتلة النقدية الحالية كافية وكانت كافية جداً قبل العام 2018م، لكن الجزء الأكبر منها أصبح خارج النظام المصرفي، وما أتوقع حدوثه أن تختفي العملة الجديدة المغرية للتخزين خارج البنوك بسبب فئاتها العالية، وتعود العملة القديمة المخزونة لدى تجار العملة وغيرهم إلى التداول.
ثالثاً: يبدو أن هناك أيادٍ خفية تعمل على تعميق الأزمات الداعمة لمزيد من التذمر والخروج إلى الشارع، هل هناك أي منطق في بداية استلام الشركة الأجنبية لإدارة ميناء بورتسودان بموجب عقد مجزٍ وعملي في هذه الأيام الحرجة، قبل شرح العقد وفوائده للعاملين بالميناء وضمان عدم تشريدهم؟ وهل هناك أي منطق في إرباك عمليات النقل الجوي والدخول مع شركات الطيران العالمية في أزمة، أدت إلى شروعها في التوقف عن العمل في السودان، الأمر الذي سيعطل مصالح آلاف المسافرين لأغراض مختلفة، مثل العلاج والتجارة والصناعة؟ لماذا لا تغض سلطة الطيران المدني الطرف عن وسيلة التعامل بين المسافر وشركة الطيران لحين الخروج من الوضع السياسي والاقتصادي الحرج هذه الأيام ونقول: (المشاتر هو الشخص الذي يخرج عن الإيقاع الملائم لأي عمل وأبرز صفات المشاتر هي القيام بالعمل الصحيح في الوقت الخطأ).
الحل الأمثل في هذه الظروف إتاحة الحريات السياسية والاجتماعية والتعاملات المالية دون أي قيود لحين الخروج الآمن من (الكتمة) الحالية والتفكير خارج الصندوق مطلوب.
تقرير:عمر البكري أبو حراز
صحيفة اخر لحظة.