التعليم.. تدفع بس حقوق الإنسان: التعليم حق وليس امتيازاً وعلى الدولة الالتزام بذلك
الدولب: نصبو للمجانية ولكن…
مشرف تربوي: ما لم تُهيّأ البيئة المدرسية لن تكون هناك مجانية
معلمة: (لو بِتِّي ما دفعت ما تدخل الفصل)!!
ولي أمر: ادفع للمدرسة الحكومية النموذجية أقل مما أدفعه للخاصة
وزير التربية بالشمالية: الرسوم متروكة للولايات وهي زهيدة وغير ملزمة
ظلت مجانية التعليم تتناوشها المصداقية بين إقرارها من قبل الدولة ممثلة في قياداتها والوزارة المعنية بالتعليم وبين إنكار إدارات المدارس التي لم يتورع بعضها عن وسم القائمين على أمر التعليم بالكذب حتى تتم محاسبتهم على طرد تلميذ بسبب رسوم اختلفت مسمياتها، وإن كانت جميعها تخرج من جيب واحد هو جيب ولي أمر التلميذ حتى إن كان خصماً على (حلة الملاح).
ولكن يبدو أن وزيرة التربية والتعليم مشاعر الدولب بخلاف سابقيها قد (بلعت حبة الصراحة) وهي تعلن في أثناء مخاطبتها الملتقى التنسيقي التاسع والعشرين لوزراء التربية بالولايات أن مجانية التعليم في الوضع الحالي تبدو أمراً مستحيلاً بل أضافت: (لكي نكون صادقين يجب ألا نتحدث عن مجانية)!
تصريح الوزيرة صنفه البعض من التصريحات المستفزة التي تصب الزيت على النار في مثل هذه الأجواء السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد في حين يتوقع المتابعون، أن تجنح الحكومة (للطبطبة) وحلو الكلام لتهدئة النفوس الثائرة.
*حقا وليس امتيازاً
وقبل أن نتناول حديث الوزيرة بالنقاش، علينا إدراك حقيقة أن التعليم ليس امتيازاً بل حق من حقوق الإنسان حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى هذا الأساس ضمن القانون حق التعليم للجميع دون أي تمييز وعلى الدولة أن تُلزم بحماية الحق في التعليم واحترامه وإعماله، وهنالك طرق عدة لمساءلة الدول عن انتهاك الحق في التعليم وحرمان أحد ما منه.
ولعل بعض القائمين على أمر العملية التعليمية لم يطلعوا على هذه المادة في الإعلان، إذ ما زالوا يتعاملون مع التلاميذ على أساس أنه سلعة ينبغي أن يدفعوا ثمنها قبل الحصول عليها.
قبل سنوات عديدة، وكنت حديثة عهد بمهنة المتاعب استنجد بي ولي أمر أحد الطلاب طالباً مني مساعدته في إعادة إبنه للمدرسة بعد أن طُرد من مقعده بالفصل بسبب مبلغ مالي، وتدخلت بالفعل بمناقشة الأمر مع مدير المدرسة خاصة أن الدولة تتحدث عن مجانية التعليم ومن ثم لا يجوز (فرض) أي رسوم على أي طالب وطرده بسببها، وما زلت أذكر رد المدير الغاضب وهو يكذب الدولة التي لا تدعم المدارس بأي من أغراض التسيير بل حتى الطباشير تشتريه المدرسة أو كما قال، وأذكر حينها أن التلميذ عاد إلى مقعده بالفصل، ولكنه ما لبث أن غادره ليمتطي ظهر إحدى الحافلات في منصب (كمساري)، وبالمثابرة تطور إلى (سائق) ثم أصبح الآن مغترباً بإحدى دول النفط مختصرًا الطريق إلى المال الذي كان سبباً في وسمه بصفة (فاقد تربوي).
*الطرد بقروش السبت
أما التلميذة (م)، فقد طردتها أستاذة قبل عدة سنوات لأنها لم تحضر (قروش السبت)، رغم أن والدتها اتفقت مع إدارة المدرسة على طريقة الدفع وطلبت منهم عدم طرد ابنتها بسبب أي مبلغ ورغم ذلك طردتها المعلمة وعندما ذهبت وعادت جلدتها المديرة على قدميها فهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، فالمديرة لا تعلم أن (الأستاذة) طردتها، وقد أثرت القضية وقتها بعد أن اشتكت أمهات كُثر من نفس الواقع، وقام معتمد المحلية وقتها مشكوراً بزيارة المدرسة وتوبيخ إدارتها، وغادر بعد أن تعهدن بعدم طرد أي تلميذة بسبب نقود حتى لو أقرها مجلس الآباء، إذا لم يكن التلميذ مستطيعاً فتحسين البيئة المدرسية التي تتحجّج بها إدارات المدارس في (التحصيل) ليس مسؤولية التلاميذ ولا أولياء أمورهم.
*شعارات فضفاضة
بعض أولياء الأمور من ميسوري الحال لا يجدون غضاضة أن يدفعوا أي رسوم تقررها مجالس الآباء وخاصة في المدارس النموذجية الحكومية، فهي بأي حال أفضل من المدارس الخاصة من ناحية الرسوم وأفضل من المدارس الحكومية من ناحية الجودة
فـ50 جنيهاً كرسوم في مرحلة الأساس، و120 للثانوية ليست بالمبلغ الكبير حسب (رضا) الذي يدرس أولاده بمدارس نموذجية، إضافة لرسوم الكهرباء، وقد اتفق أوليا ء الأمور ممن يسمون بـ(مجلس الآباء) على دفع 500 جنيه في السنة تدفع (كاش).
ويوضح رضا: (عندي أولاد بقروا في مدارس خاصة والرسوم في المدارس الخاصة ضعف النموذجيةن والسواد الأعظم من أولياء الأمور ما عندهم مشكلة لأنها أحسن من مدرسة خاصة).
قلت لرضا: ولكن التعليم حق من الحقوق التي نصّت عليها حقوق الإنسان وليس سلعة تُباع، ومن ثم يجب ألا يُحرم أي تلميذ من هذا الحق؟ فقال لي (خلينا من حقوق الإنسان ده شعار فضفاض ما بتحقق، الإعلان تحدث عن الصحة وأي حاجة والمياه النظيفة، وليس التعليم فقط والحاجات دي كلها ما متوفرة صاح؟ الإجابة (صاح) طبعاً ولكن ليس هذا مبرراً لإلغاء حق التعليم.
*جرد رسوم
بشرق النيل، ومن خلال لقائي بطالبتين بمدرستي أساس وثانوي، وصلنا الى رسوم تفرضها المدارس وبعض أولياء الأمور لا يستطيعون سدادها، وبالطبع مصير أبنائهم الطرد، ففي مرحلة الأساس الرسوم الدراسية سبعمائة جنيه للطالب النظامي إلى جانب رسوم الكهرباء التي تصل إلى خمسة جنيهات أسبوعياً، ورسوم أوراق العمل التي تبأ أيضاً من خمسة جنيهات ما فوقها ورسوم الامتحانات الشهرية مائة جنيه كل شهر ورسوم الشهادة التجريبي ثلاثمائة وخمسون جنيهاً ورسوم البطاقة مائة جنيه، وأخيرًا رسوم التسجيل مائة وخمسون جنيهاً، أما في المرحلة الثانوية فتبدأ الرسوم لفصل الاتحاد من ألفين وخمسمائة جنيه، ورسوم التسجيل مائة جنيه، ورسوم الكراسات ثلاثمائة وستون جنيهاً ورسوم الامتحان خمسون جنيهاً، وهناك رسوم يُطلق عليها رسوم “المقيل”، وهذه تصل أيضاً إلى ثلاثمائة وخمسين جنيهاً شهرياً ورسوم الحصة الإضافية عشرين جنيهاً ورسوم النشاط ثلاثة جنيهات.
*زهيدة وغير ملزمة
وزير التربية والتعليم بالولاية الشمالية، إبراهيم موسى الذي استطلعته الصيحة حول مجانية التعليم قال إن هناك رسوماً قليلة بمدارس الولاية 250 جنيهاً للأساس، إضافة لرسوم التسجيل حوالي 300 جنيه كحد أعلى حسب الوزير الذي لا يذكر قيمة تلك الرسوم في المرحلة الثانوية، ولكن إذا لم يستطع التلميذ سدادها يعفى منها وهي متروكة لوزراء الولايات.
*التوقيت غير مناسب
مصدر بقطاع التعليم بولاية الخرطوم ـ طلب حجب اسمه ـ اتفق مع الوزير أن الرسوم بسيطة لا تتعدى الـ (5) جنيهات كل سبت إضافة لرسوم الامتحانات أما رسوم التسجيل فلا تُذكر حسب مصدرنا الذي لديه أبناء بالمدارس، وإذا تماطل التلميذ في سدادها فلا يسأل، وأضاف: (يعني لو في السنة قالوا ليك ادفع 60 جنيهاً رسوم امتحان الوزارة بتاخد منها 20 جنيه ، أها الـ60 جنيه دي ما زي المجانية؟ الرسوم البندفعا في المدارس دي بندفعا بدون إيصال ويقررا مجلس الآباء لأنه يعرف ظروف الناس).
المصدر اعتبر تصريح الوزيرة في هذا التوقيت غير مناسب لأنه يمكن أن يجعل إدارات المدارس تستقوي به وتعتقد أنها وجدت سنداً تتحصل به من التلاميذ بصورة ملزمة بعد أن كانت طوعية، إضافة إلى أن نغمة التحدي في تصريحات المسؤولين اختفت بعد الاحتجاجات الأخيرة، وحلت محلها لغة سياسية هادئة ومرنة، ومثل هذا التصريح قد يستفز الشارع بصورة أكبر .
*لا مجانية في هذه الظروف
فيما يرى المشرف التربوي ومدرب المعلمين بولاية الخرطوم دكتور ياسر السماني، أنه ليست هناك رسوم بشكل رسمي، ولكنها رسوم مجالس الآباء كمشاركة في تحسين البيئة المدرسية لأبنائهم فالمدارس نفسها تحتاج تهيئة ومعينات التعليم غير متوفرة، وقال: أنا ذهبت إلى بعض المدارس فوجدت المعلمين يقومون بشراء الطباشير والأثاث للمدارس فإذا اكتملت تلك المعينات بالمدارس، يجب أن تُدرَس مجانية التعليم وغير ذلك، ففي ظل الظروف الاقتصادية الحالية والأزمة العالمية المعروفة، لا أظن أن المجانية ممكنة،سابقاً المدارس لم تكن بهذا الكم وعدد الطلاب أيضاً زاد، ولكن يمكن أن تتم المجانية مستقبلاً بعد نقاش ومعالجة؟
*تدفع بس
إحدى المعلمات ـ فضلت حجب اسمها ـ كان لها رأي مختلف، حيث أكدت أن دكتور المعتصم عبد الرحيم له الرحمة كان يقول التعليم مجاني، وكانت هناك حالات تشتكي من طرد أبنائها من المدارس، وكان هناك مسؤولون يتحركون من الوزارة ويصلون حتى المدارس ويخاطبون إداراتها، ولكن الآن “أنا مش معلمة بتي ما تدخل المدرسة لو ما دفعت الرسوم “! سألتها عن ماهية تلك الرسوم فقالت (رسوم دخول الطالب لمرحلة الأساس 800 جنيه، قلت ليهم أنا زميلة زيكم ودفعت 400، إضافة لرسوم الامتحانات حوالي 40 أو 30 جنيه الآن الرسوم تجاوزت الألف جنيه، في المدارس ما في ضبط والمديرة تقول ليك دي رسوم قررها مجلس الآباء! مجلس الآباء ما براعي ظروف الناس).
الدولب.. تصريح وتفسير
وزيرة التربية والتعليم، مشاعر الدولب، ختمنا بها جولتنا في هذا التحقيق فسألناها عن المجانية التي نفتها في تصريحها مستفسرين عن الرسوم المقررة بصورة دقيقة، فقالت لـ(الصيحة): (لا توجود رسوم بالمعنى الحقيقي بالمدارس، ولكن البيئة المدرسية غير مهيأة بالكامل لتفي بكل متطلبات الطالب خاصة فيما يتعلق بالكتاب المدرسي والإجلاس رغم أن مجانية التعليم حق كفله الدستور ومسؤولية الكتاب المدرسي والإجلاس تقع على عاتق الوزارة، ولكن بسبب ضعف الموارد تضطر الأسر لإكمال أشياء كثيرة لتمضي مسيرة تعليم أبنائها لأن جل التعليم يقع على الجهد الشعبي، لا نرفض أن يكون التعليم مجانياً بل يجب أن يكون مجانياً، ولكن واقع الحال الآن يقول إننا يجب أن نبذل مجهوداً لنصل لهذه المجانية، لأننا لم نصل لمرحلة أن تتحمل الدولة كل العبء خاصة في الولايات والمناطق النائية”.
وأوضحت الدولب أن البعض ضخّم حديثها بخصوص استحالة مجانية التعليم، وقالت “ما قروا كل حديثي”، وأضافت: “أنا قلت الكلام ده في إطار ملتقى حاضرينو معلمين وفاهمين أنا بقول في شنو” وبينت أنها تحدثت عن الفكرة التكافُلية وصولاً لمجانية التعليم، بحيث يجد الطالب كل مستلزماته الدراسية، لأن مجانية التعليم حق كفله الدستور، ولابد من جهد كبير لتحقيق تلك المجانية.
*ميزانية التعليم
حسب جداول أوردتها صحيفة (إيلاف) فإن نصيب التعليم في موازنة 2018 تساوي 326 مليون جنيه من جملة الميزانية العامة التي بلغت تفاصيلها كالآتي:
الحماية الاجتماعية 25%، ومنح التحويلات 22% والأمن والدفاع 16%، فيما نال التعليم 3% والصحة 2%، حيث وصفها البعض بأنها أسوأ ميزانية في تاريخ البلاد.
من المحرر:
حتى وإن اتفق الجميع على أن الرسوم التي تفرض على التلايمذ قليلة وغير ملزمة، فإن هناك من يراها كثيرة بحسب وضعه المادي والاجتماعي ولا يستطيع دفعها خاصة وأنها غير ملزمة، وبما أن التعليم حق أصيل نصت عليه حقوق الإنسان ومن ثم لا يجب حرمان أي شخص منه تحت أي ظرف، ومن ثم نتمنى ألا تجد إدارات المدارس سنداً لها في تصريح وزيرة التربية والتعليم ياستحالة المجانية، رغم مبررات التصريح وظروفه، فيصبح التطوّع إلزامًا ويكون سبباً لمزيد من الفاقد التربوي في طرقات البلاد، لأن تأهيل المدارس ومعينات التعليم مسؤولية الدولة وليس المواطن الذي أصبح غير قادر على توفير لقمة العيش لأبنائه.
تحقيق: هويدا حمزة
صحيفة الصيحة.