تحقيقات وتقارير

الخدمة المدنية.. “جبة” أعياها “الترقيع” الرئيس البشير: “وما في حاجة أسمها أولاد المصارين البيض”


والي الشمالية: نعاني أشد المعاناة من واقع الخدمة المدنية

أبو قردة: عملية الإصلاح يجب أن تتم من القاع

الساعوري: “أين الضبط والربط في الخدمة العامة”؟

الخرطوم: نجاة إدريس إسماعيل

رغم أن الرئيس عمر البشير، قال منذ نحو ستة أعوام إن عهد التمكين وتسييس الخدمة المدنية العامة انتهى إلى حيث لا رجعة، إلا أن أزمات كبيرة – خلافاً للتمكين – لا زالت تعاني منها الخدمة المدنية في السودان، وهو الشيء الذي دفع والي الشمالية ياسر يوسف إلى القول بضرورة مقابلة مشكلات الخدمة المدنية بصرامة وشفافية داعيا إلى إشعال حرب شعواء على البيروقراطية السلبية القاتلة، وطالب يوسف الموظفين بضرورة أن يعوا بأنهم خدام لمن يطلب الخدمة من الجمهور، لا أن يكون الموظف ممتناً عليهم، ورهن والي الشمالية تجاوز الصعوبات والعقبات الاقتصادية بإصلاحات عاجلة في الخدمة المدنية، ودلّل يوسف على فشل الخدمة المدنية مبديا استياءه من عدم تنفيذ مشروعات كان يجب أن يفتتحها الرئيس البشير منذ شهر يناير الماضي، قائلاً إن الفرق ما بين التوقيع واستلام المقاول للموقع ستة شهور وأردف “نعاني أشد معاناة من واقع الخدمة المدنية”.

*سرقة زمن الدولة

في حين وصم وزير العمل والإصلاح الإداري وتنمية الموارد البشرية، بحر إدريس أبو قردة موظفين بالمؤسسات الحكومية بالتحجج بالصلاة لسرقة زمن الدولة باسم الدين، وكشف أبوقردة عن (54) محاولة سابقة لإصلاح الخدمة المدنية، مشيرا إلى أن كل هذه المحاولات كان ينقصها جانب الالتزام السياسي والتحديد الدقيق والمباشر مع المشكلات. وقال أبوقردة “إن عملية الإصلاح يجب أن تتم من القاع إلى القمة لا أن تكون عملاً نخبوياً مركزياً”.

*علل الخدمة المدنية

ونادى أبوقردة بضرورة الالتزام بقيم العمل ومحاربة السلوك السالب في دواوين الخدمة المدنية مثل الرشوة والغش والمحسوبية. وأضاف أبوقردة – لدى حديثه في ورشة بمروي– بأن موظفي الدولة ينشغلون بإدمان تطبيق “الواتساب” بدلاً عن العمل منددًا باستغلالهم السييء لمواعيد الصلوات. وطالب أبو قردة العاملين بالخدمة المدنية بطرد الإحباط والعمل بهمة من أجل زيادة الإنتاج والإنتاجية مما يساعد في جعل البلاد في مصاف الدول المتقدمة.

*روشتة علاج

فيما دعت وزيرة الدولة بوزارة ديوان الحكم الاتحادي د. تابيتا بطرس إلى التناول الشفاف والعميق لمشكلات الخدمة المدنية وتعافيها من أمراض الجهوية والقبلية والتمكين، ووضع الموظف المناسب في المكان المناسب. ولفت مساعد رئيس الجمهورية عبد الرحمن الصادق المهدي ورئيس لجنة إصلاح الخدمة المدنية بأن الإصلاح صمام أمان لتحقيق الاستقرار الشامل، مضيفاً أن اللجنة حصرت سبعة محاور لعلاج إشكالات العمل تتمثل في “التوظيف والأجور والترقي والتحفيز والتدريب وترقية القدرات والإصلاح الإداري والقانوني”.

فيما يرى نائب رئيس الجمهورية السابق، حسبو محمد عبد الرحمن أن أهم مرتكزات الإصلاح تتمثل في إصلاح الدولة تشريعيًا وقانونياً، وشدد حسبو على ضرورة أن تكون الخدمة المدنية محايدة وفقاً لشفافية الأداء والمعايير مؤكدًا على ضرورة الابتعاد بها عن الجهوية والقبلية والمحسوبية، وطالب حسبو الوزارة بمواكبة التقنيات الحديثة والإسراع في إكمال قاعدة بيانات الخدمة المدنية، كما شدد على ضرورة منح الحوافز وفقاً للوائح والقوانين.

*أول المخازي

أسقام سياسية أضرت بالخدمة المدنية التي باهى بها الإنجليز عندما خرجوا من البلاد عند جلائهم منها قائلين” تركنا في السودان ثلاثة أشياء: السكة الحديد ومشروع الجزيرة والخدمة المدنية”، فلاغرو أن اعتبر الكاتب الصحفي عثمان ميرغني في كتابه “كيف أضاعوا السودان ؟! عشر مخازِ سودانية ” عملية السودنة 1954-1955 أول تلك المخازي التي زلزلزت كيان الخدمة المدنية في السودان بعيد الاستقلال قائلاً إن السودنة المتعجلة اجتاحت وظائف الخدمة المدنية الحساسة، كما تجتاح النار القصر الفخيم، إذ فرشت التربة المناسبة بعد ذلك لتنبت عليها مخاز مرتبطة بها.. هذه المخازي تمثلت بعد ذلك في التطهير الوظيفي بعد ثورة أكتوبر 1964، ثم التطهير الوظيفي في بداية عهد مايو 1969، ثم النقلة الهائلة في مفاهيم التطهير الوظيفي التي حدثت في 1989 عهد “الإنقاذ” تحت عباءة “التمكين”، وأطلق عليها سياسات “الصالح العام”، وطالت آلاف الموظفين على شبهات سياسية فجة، وكانت أكبر نكبات الخدمة المدنية فأتت على ما تبقى منها تماماً.

*داء قديم

سرعان ما أضرت حكومات ما بعد ثورة أكتوبر1964 والأنظمة الشمولية المتعاقبة بالخدمة المدنية في البلاد وسلطت فيها سيف التسييس، فكان أن طبق نظام مايو- في عهده الأول بشعاراته الحمراء – “التطهير” في الخدمة المدنية بفصله كل القيادات التي لا تدين له بالولاء أو يشتبه في “رجعيتها” وعدم مواكبة الثورة التقدمية ،ووصف د. منصور خالد في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل” “التطهير” بأنه ظلم كبير، مضيفاً بأن شعار “التطهير واجب وطني” أفرغ من محتواه، مؤكدًا على أن “مايو” بدأت بإجراءات “تطهير” في كل من القضاء والجيش والبوليس والجامعة والحكومة المحلية، وشملت قرارات الإعفاء في القوات المسلحة عدداً من القياديين في الجيش/ لم يتجاوزوا العشرين منهم عمر الحاج موسى، ومزمل غندور وبسبب المزايدات الهوجاء راح كثيرون من رجال الخدمة العامة المتميزين، إما ضحية للغيرة أو للانتهازية.

وسمى د. منصور خالد من هولاء د. محمد عثمان عبد النبي، ود. حسن كنكش في وزارة الصحة، والدكاترة عبد الله الطيب ومنصور علي حسيب، وزكي مصطفى في جامعة الخرطوم. ود.مصطفى بعشر في وزارة الثروة الحيوانية، والسفراء عثمان الحضري، وبشير البكري وفضل عبيد، وجمال محمد أحمد في وزارة الخارجية، وعن تلك التجربة المريرة، أشار الأخير في كتابه “في الدبلوماسية السودانية” إلى أنه ترتب على ذلك الوضع “فترة سنة 1964 – 1968 فترة ما بعد أكتوبر قلق في الدبلوماسية بمعناها الأوسع إذ عرف السودان في هذه الفترة ظاهرة التطهير.

*على ذات النهج

وذات السيف الذي استخدمته حكومة “مايو” استخدمته أيضاً حكومة “الإنقاذ” بلجوئها لسيف “التمكين”، وكان نظام “الإنقاذ” قد اعترف في أكثر من محفل بتسييسه الخدمة العامة وانتهاجه سلوك “التمكين” بتعيين من يدينون له بالولاء على حساب الكفاءة مما أضر بالخدمة العامة وأضعفها، إذ تم فصل الآلاف من العاملين في الخدمة المدنية واستبدالهم بآخرين يدينون بالولاء المطلق للنظام، وقد استشرى هذا الداء في الخدمة المدنية منذ العام 1989 إلى أن أعلن الرئيس البشير في عام 2013 عن انتهاء عهد التمكين والتسييس في الخدمة المدنية، معلناً عن برنامج إصلاح شامل محاوره “إصلاح الخدمة المدنية وإعادتها سيرتها الأولى”، وتعهد البشير بإعادة الخدمة المدنية سيرتها الأولى وتمكينها لأداء واجبها واستقلاليتها وحيدتها وإبعادها من التسييس أو أي شعارات أخرى. وتابع: “ما في فصل للصالح العام وما في حاجة اسمها أولاد مصارين بيض!”.

*أسئلة ملحة

انتقد البروفيسور حسن الساعوري حديث وزير العمل بحر إدريس أبوقردة والذي أشار فيه بأن الموظفين يتحججون بوقت الصلاة لسرقة زمن الدولة، قائلا إن زمن الصلاة لا يتجاوز الخمس عشرة دقيقة على أكثر تقدير مضيفاً بأنه إذا لم يستطع وزير العمل ضبط العاملين الذين يتسربون بعد أوقات الصلاة أو يستغلون أوقاتاً طويلة قبيل الرجوع للعمل ثانية، فإن ذلك يشير لعجزه، وتساءل الساعوري”أين الضبط والربط في الخدمة العامة؟” و”لماذا لا تلجأ الدولة لمحاسبة منسوبيها حتى ينعدل حال الخدمة المدنية؟” وأكد الساعوري على ضرورة عمل ضوابط في الخدمة المدنية حتى ينصلح حالها.

*كوامن الأزمة

وأرجع الساعوري كوامن الأزمة في الخدمة المدنية إلى عدم تدريب العاملين، مضيفًا بأن التدريب توقف منذ مجيء الإنقاذ، ولم يعد التدريب إلا في عام 2009، وأشار الساعوري إلى تدريب أي عامل في الماضي مشيرًا إلى أن الدورات التدريبية كانت ممرحلة كل أربع سنوات لكل موظف، مضيفًا بأن الدورات التدريبية تكون للكافة وكل في مجاله، إضافة إلى أن رجال التدريب في الخدمة المدنية أما ذهبوا للمعاش أو للصالح العام أو انتدبوا للجامعات، وبالتالي فقدت الخدمة المدنية دليلهم الداخلي بذهاب هؤلاء المدربين الذين فقدوا بالطرق التي تم ذكرها وفقدوا دليلهم التدريبي الخارجي بفقدهم الدورات التدريبية التي كانت تنظم في الماضي وأصبح التدريب للعاملين في مراكز التدريب وتم الاستغناء عن مركز تطوير الإدارة – وهو معهد قديم لتدريب العاملين. وأضاف الساعوري بأن ثالث أسباب أزمة الخدمة المدنية يكمن في استيعاب أشخاص في غير تخصصاتهم، وبالتالي لا تستفيد الدولة من تخصصهم، وأشار الساعوري إلى أن “التمكين” قديماً لا يمثل أحد أضلاع أزمة الخدمة المدنية، لافتاً إلى أن هؤلاء الذين تم استيعابهم بسبب انتمائهم للحزب الحاكم فهم في المقام الأول “خريجون”، مستدركاً أن يكون ينقصهم التدريب لافتاً إلى أهمية تدريبهم وتعيينهم في المكان المناسب.

*إفقار للدولة

مثل الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي ضعف الخدمة المدنية بضعف القلب في الجسد فبضعفه لا يستطيع ضخ دماء جديدة، وبالتالي يتم إنهاك كامل الجسد، وأضاف الرمادي في حديثه لـ”الصيحة” بأن الخدمة المدنية أفرغت من الكوادر المؤهلة، وبالتالي أصبح التعيين ليس على أساس الكفاءة ممثلًا لذلك بالعاملين بالدولة الذين يوضعون في غير تخصصاتهم التي درسوها، مشيرًا إلى أن كل هذه الأشياء قادت إلى الفوضى الضاربة أطنابها الآن في الخدمة المدنية، وأضاف الرمادي أن ضعف الخدمة المدنية أدى إلى إفقار للدولة.

*تكية الخدمة المدنية

ولفت الرمادي إلى أن “التمكين” الذي مارسته “الإنقاذ” في الماضي، أدى إلى استغناء الدولة عن الكفاءات واستبدالهم بآخرين موالين للحكومة، مضيفاً بأن هذا الشيء أضعف الخدمة المدنية.

وأشار الرمادي إلى أن كارثة ضعف الخدمة المدنية ظهرت مشكلتها جلية عندما ظهرت الأزمة الاقتصادية بالسودان عندما لم يوفق الاقتصاديون الموجودون داخل دولاب الدولة لحلها مضيفاً بأنه حتى البنك المركزي لم يستطع الحل مضيفاً بـأن الدولة كان عليها أن تختار الأجود ليحل مشكلة الاقتصاد السوداني، وأضاف الرمادي بأن الخدمة المدنية أصبحت “تكية” يعين أفرادها نتيجة للمحسوبية المتفشية في دولاب الدولة، مضيفاً بأن هذا جعل الدولة تصرف كثيراً على جيوش كبيرة من الموظفين إنتاجها أقرب إلى الصفر، مضيفاً بأن هذا الأمر أدى الى استنزاف الدولة، مضيفاً بأن الأخطاء الناتجة من ضعف الكفاءة أدت لتحطيم اقتصاد الدولة.

صحيفة الصيحة.