تحقيقات وتقارير

(كلاسيكو) الطوارئ والدولار .. من يكسب الرهان؟!

قصة الشاب “أحمد” من البيع بـ”درداقة” إلى بوكس من فصيلة “فور ويلدرايف”

“أحمد” شابٌ لم يتعدَّ الثلاثين من عمره، جاء إلى الخرطوم من ولاية مُتاخمة لعاصمة البلاد يبحث عن رزقه عبر (درداقة) تحمل في جوفها (هَتَش بنات) من باندات وجوارب وأقلام وغيرها من مواد تجميلية، مكان عمله إحدى (برندات) السوق العربي وحدود دخله بالكاد تغطي مصاريف البقاء على قيد الحياة، لكن الفَوضَى التي كانت تضرب السُّوق المُوازي للنقد الأجنبي لما يُقارب العشرين عاماً، جعلت الرّجُل يدخل في زُمرة كبار تُجَّار الدولار، وفي ظرف أقلّ من عامين امتلك بوكس من فصيلة (فور ويلدرايف) آخر موديل، وبلا شك أنّ هنالك العشرات إن لم نقل المئات قد تسلَّلوا للتعامل في الدولار وغيره من العُملات الأجنبية؛ بذات طريقة ذلكم الشاب (الما جذَّاب)، لكن يبدو إعلان الطوارئ وما تلاه من إجراءات مُتعلِّقة بمنع التَّعامل في النَّقد الأجنبي خارج القنوات الرّسمية، قد وضعت حدَّاً لتلك الفوضى التي كانت سائدة.

أصحاب الحاجات
أقرباء (بطل) قصتنا المذكورة عاليه من كبار تجُّار العُملة، وبعد أزمة السُّيولة التي أطلَّت برأسها في فبراير 2018م، لجأ الناس إلى الوسائل كَافّة، التي تُمكِّنهم من الحُصُول على الأموال، فكان (أبو حميد) واحداً من الذين وجدوا ضالتهم في بيع الكاش بالشيك في الدولار، حيث ظَلُّوا يصطادون كل صاحب حاجة، من الذين تمتلئ حساباتهم في البنوك بأموال طائلة جداً، لكن كيف يحصلون على حُرِّ أموالهم، ومديرو البنوك أنفسهم يشكون لطوب الأرض من شُح السُّيولة؟ لكن مع كل ذلك استطاع “أحمد” أن يكمل مئات البيعات (الدولارية) حتى وصل السعر أعلى سقف له وهو (71) جنيهاً للدولار بالكاش، أما من أراد شراؤه بالشيك فيضطر لدفع (84) جنيهاً؛ وقد يزيد الرقم حسب الكمية وحاجة المُشتري.

تفاصيل (بيعة)
الصّفقة تتم على النحو الآتي: يأتي زيدٌ من الناس، بعد أن عجز في سحب مَبلغٍ كَبيرٍ من حسابه بالبنوك، في وقتٍ لا يسمح فيه الظرف الطارئ الذي يُواجهه إلا بالحصول على السُّيولة مهما كلَّفه من ثمنٍ، وهُنا يأتي لـ”أحم” وأمثاله فيبعون لهم الدولار بقيمة (84) جنيهاً مُقابل شيك مصرفي يتم توريده في حساب المُشتري.. هُنا سألتُ محدِّثي: وكيف يتحصَّل هذا المُشتري الذي سلَّم ماله بالدولار مُقابل الجنيه؛ من البنوك في ظل الأزمة التي جعلت الطرف الآخر يقبل بشراء الدولار بقُرابة المائة جنيه؟ فأجابني من سألته: (يا أستاذ ديل مُعلِّمين كُبار – يقصد تُجَّار العُملة – والله يطلِّعوها كاملة من تنقص جنيه، وكُلُّو بي حقُّو).

قليلون ولكن..
السُّؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كل تُجّار العُملة يُمارسون هذا النوع (الكسر) في سُوق الدولار؟ الإجابة (لا)؛ بحسب من تحدّث لي وهو عَليمٌ بما يَدُور في تلك الدهاليز، حيث أكّد أنّ أكثر من 90% من تُجّار الدولار ينأون بأنفسهم عن هذا البيع بحُجَّة أنه ربا صريح، وهم ليسوا بحاجة إليه، وقال الرجُل إنّ من يُمارسون بيع الكاش بالشيك في الدولار قِلَّة ويغلب عليهم الطابع الشبابي، فهُم يُسابقون الزمن لكنز الأموال وشراء العمارات والفارهات من السّيّارات.

من أين أتى هؤلاء؟!
أكثر ما تحسَّر عليه مُحدِّثي أنّ عَدَدَاً لا يُستهان به من الذين (دخلوا) سوق الدولار من أوسع أبوابه؛ هُمْ (أُمِّيون) لا يفكِّون الخط – حسبما وصفهم مُحدِّثي – مُؤكِّداً أنّه لا يهمهم أن ينهار اقتصاد بلادهم، أو يموت الناس بسبب شُح وغلاء الدولار، فقط هُم يتسابقون من أجل كنز الأموال وزيادة ثرواتهم بالحلال أو الحرام (هكذا قال مُحدِّثي).. مُضيفاً أنّ قلبه يكاد ينفطر وهو يرى اقتصاد البلاد والعباد يتحكَّم فيه (عوام)، من حقِّ كل من يراهم أن يتساءل: من أين أتى هؤلاء؟! وأكّد أنّه لو لا إعلان حالة الطوارئ وما تبعها من قراراتٍ حاسمةٍ في ما يخص النقد الأجنبي لوصل سعر الدولار بالكاش إلى مائة جنيه في ظرف أُسبوعين فقط.

حالة الطوارئ مطلوبة ولكن….
ولمعرفة الرأي الحكومي يقول مدير عام قطاع الاقتصاد وشؤون المستهلك بوزارة المالية ولاية الخرطوم، د. عادل عبد العزيز، إنَّ محاصرة المضاربات والمتاجرة غير المشروعة في العملات الأجنبية مسألة مهمة جداً، وتساعد فيها حالة الطوارئ بصورة كبيرة، ولكي يستمر الاستقرار في سعر الصرف لا بُدَّ أن يتملَّك بنك السودان المركزي احتياطياً من العملات الأجنبية يُمكِّنه من التدخل في سوق النقد الأجنبي لجعله ملائماً ومتناسباً مع الاقتصاد السوداني، وأشار عبد العزيز إلى أن الاحتياطي لبنك السودان المركزي من العملات الأجنبية يتم تكوينه من الآتي: عائدات الصادرات، تحويلات المهاجرين، الودائع والقروض الأجنبية وسندات الخزانة التي يمكن أن تصدرها الدولة. وأضاف بقوله: من الواضح أن المجالات الأربعة يؤثر عليها بشدة وضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولذا ينبغي أن تكون من أولويات السياسة الخارجية للحكومة السعي لرفع السودان من هذه القائمة باستكمال الحوار مع الولايات المتحدة، منوِّهاً إلى أنه في حالة تلكؤ الجانب الأمريكي يمكن الانتقال لاستخدام اليوان الصيني في التبادلات التجارية بل حتى على المستوى الداخلي في إطار الشراكة الاستراتيجية مع الصين.

صُعُوبة الفِطام!!
عالمون ببواطن أمور السُّوق المُوازي للنقد الأجنبي، أكّدوا لي أنّ عمليات التداول بيعاً وشراءً تكاد تكون متوقِّفة تماماً بعد قرارات حظر التّعامل في النقد الأجنبي إلا عبر القنوات الرسمية، وهُنا يقول أحد (السِّرِّيحة) إنّ (إغراءات) العمل في هذا المجال تجعل الكثيرين من التُّجّار الذين اشتروا العمارات وامتطوا الفارهات وفتحوا الحسابات بمُختلف البنوك دون أن تكون عليهم أيِّ التزامات تُجاه الدولة من ضرائب، عوائد، زكاة وغيرها من رسوم تُفرض حتى على الشرائح الضعيفة من المُواطنين، في حين (يفلت) منها مَن يكسبون (المليارات) في تجارة العُملة، وبالتالي تخسر الدولة مرّتين؛ الأولى ما يُسَبِّبه هؤلاء من ارتفاعٍ جُنُوني في سعر الدولار، والثانية ما تفقده من أموالٍ نتيجة لتهرُّب هؤلاء من التزاماتهم تجاه دولتهم.. هذه الإغراءات تجعل من العسير إن لم نقل من المُستحيل أن يستسلم كل تُجّار العُملة ولا يعودون البَتّة لمُمارسة تجارتهم غير المشروعة.

تحويلات عابرة للحُدُودِ
إذن، فالسؤال الذي يطرح نفسه هُنا: كيف سيواصل تُجّار الدولار عملهم في ظل الظروف الراهنة؟ الإجابة بحسب مصدر تحدَّث لنا طالباً حجب اسمه، إنّ التعامل في النقد الأجنبي عبر السُّوق المُوازي سينشط في مجال التحويلات العابرة خارج الحدود، وفسَّر ذلك بقوله إن (أجانب) مُنتشرون في أغلب دول العالم يعتمدون بشكلٍ كبيرٍ جداً في تحويلاتهم على السودان، وأغلب (المُبايعات) تكتمل في إمارة دُبي بحيث يستلم تاجر العُملة السُّوداني المبلغ بالدولار أو الدرهم و(يكلِّف) من ينوبه عنه هُنا في السودان بتسليم الشخص الذي يُحَدِّده صاحب (الحوّالة)؛ المبلغ بالجنيه السوداني، بمعنى أنّ التعامل يتم كالآتي، التسليم بالنقد الأجنبي يتم خارج السودان وما يعادله يُسدَّد بالداخل بالعُملة المحلية.

في عَدّاد المُتفرِّجين
وكان رئيس الجمهورية قد أصدر مُؤخّراً أربعة أوامر طوارئ، يتعلّق أحدها بقانون النقد الأجنبي، حيث حظر الأمر التعامل بالنقد الأجنبي بيعاً أو شراءً خارج القنوات الرسمية، وحظر حمل أكثر من (3000) دولار أو ما يُعادلها من العُملات الأجنبية الأخرى لأيِّ شخصٍ مُسافرٍ.. وفي ذلك يقول صاحب صرَّافة تعمل وفقاً للقانون – فَضّل حجب اسمه – إنّ الصرّافات منذ أمدٍ بعيدٍ لا تملك نقداً أجنبياً يُمكِّنها من التّعَامُل مع الجمهور؛ ولذا كل الصرّافات كانت تجلس في عدّاد المُتفرِّجين، قبل أوامر الطوارئ هذه، وعلَّل الانخفاض الذي يشهده سعر الدولار حالياً إلى خُرُوج أكبر مُشترٍ وهو (الحكومة)، مُنوِّهاً إلى أنه حال عودتها (لسوق الشراء) سيصعد سعره مُجَدّداً، وقال لـ(السُّوداني) إنّ تُجّار السُّوق المُوازي ربما دخلوا في (استراحة مُحارب)، لكن كل المُؤشِّرات تُؤكِّد أنهم امتلكوا من (الخبرة) في هذا الشأن ما يجعلهم (يتحايلون) على أيِّ قانونٍ لمُمارسة نشاط (طُفيلي) كنزوا من خلاله مئات المليارات.

رؤيةٌ اقتصاديةٌ
وحول النتائج التي يُمكن أن تقود إليها إجراءات الطوارئ الأخيرة، والتي شملت في أحد أوامرها منع التعامل بالعُملات الأجنبية خارج القنوات الرسمية، وحظر حمل أكثر من 3 آلاف دولار أو ما يُعادلها من العُملات للمُغادرين خارج البلاد، يرى أستاذ علم الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. عبد الحميد إلياس أنها قد تؤدي إلى خفض سعر الدولار مُؤقّتاً لكنها لا ولن تكون الحل الجذري للمُشكل، مُشدِّداً في حديثه لـ(السُّوداني) أنّ الإجراءات الأمنية لم تكن يوماً حلاً لمُشكلة اقتصادية مُتَجذِّرة، وأضَافَ: ربما يُحجم تُجّار العُملة عن الشراء خلال هذه الفترة خشية العواقب؛ ما يؤدي زيادة العرض مُقابل نُدرة الطلب لتكون النتيجة الآنية انخفاض سعر الدولار كما هو عليه الحال الآن، لكن د. عبد الحميد عاد ليُؤكِّد أنّ تُجّار العُملة الذين أثروا ثراءً فاحشاً من هذا النشاط لن يقفوا مكتوفي الأيدي بل سَيسعون إلى البحث سريعاً عن (آلية) تُمكِّنهم من العودة إلى مُمارسة نشاطهم، عن طريق التّحويلات أو غيرها من الأساليب، وهكذا سيعود السُّوق الأسود تدريجياً حتى نصل لذات النقطة التي جعلت سعر الدولار يتخطَّى حاجز الـ(70) جنيهاً.

إبل الرحيل
أيضاً من (التّكتيكات) التي سَيُركِّز عليها تُجّار العُملة خلال الفترة القادمة – حسب مصادر – أنّ عدداً من التُّجّار السُّودانيين يعملون في تصدير الإبل لجمهورية مصر العربية، وهنالك تُجّار عُملة يستفيدون من تحاويل هؤلاء التُّجّار، بحيث يتم الاستلام بالعُملات الأجنبية في مصر لتجَّار الدولار، على أن يستلم تجَّار الإبل أو وكلاؤهم المبلغ بالجنيه السوداني في الخرطوم.. مصادرنا أكّدت أنّه وبعد القرارات الأخيرة سيضطر تُجّار الدولار للاعتماد على هؤلاء حتى ولو أُجبروا على تقديم تنازلات في أسعار التّحويلات..!

تحقيق: ياسر الكردي
الخرطوم: (صحيفة السوداني)