وخوذة لبلال !!
*كان يأتينا ظهر كل يوم بالجريدة..
*يحمل في يده خوذة بيضاء يضعها على مائدة الاستقبال ثم يصيح (تشتروا وهم؟)..
*وكنا نضحك…ويضحك هو…ثم يحمل (وهمه) ويرحل..
*وفي يوم خطر ببال أحدنا أن يسأله : ولماذا نشتري وهمك هذا ما دام وهماً باعترافك؟..
*فضحك من أعماقه ضحكةً ارتج لها جسده النحيل..
*ثم قال : ولماذا يشتري الناس وهمكم هذا الذي تكتبونه في جريدتكم كل يوم؟..
*ولما سكت عنه الضحك ارتسمت الجدية على ملامح وجهه..
*وواصل قائلاً : هذا الوهم من أجل أن تضمنوا لجريدتكم البقاء…يا (وهم)..
*ولم ندر وقتها : أفيلسوف هو…أم مجنون؟..
*فإفادته الأولى تنم عن تفلسف ساخر…بينما الأخرى لا تُفهم إلا كمحض جنون..
*والفرق بين الفلسفة والجنون أصلاً كالذي بين الحياة والموت..
*هو فارق أرفع من الخيط ؛ ولكن أغلب الناس لا يحسونه إزاء المثال الثاني..
*بل ومنهم من يتعامى عنه…ويمني النفس بوهم الخلود..
*وفي بلدتنا – قديماً – كانت هنالك امرأة اسمها خالدة…أسقطت الموت من حساباتها..
*وظنت أنها اسم على مسمى ؛ خالدة…وسيُكتب لها الخلود..
*سيما وقد تجاوزت التسعين من العمر…وما زالت ترى ليل عمرها طفلاً يحبو..
*فلما حضرتها الوفاة – أخيراً – أنكرت…ولم تصدق..
*وظلت تنتهر – بنوبية واهنة – من أحاطوا بسريرها يترجونها ترديد الشهادة..
*وتقول ما ترجمته إلى العربية (أنا ما حصلت ده كلو)..
*وما زالت كذلك – تنكر وتنهر – إلى أن فاضت روحها….ولم تتشهد..
*و(الرأي الآخر) كانت تتعرض – آنذاك – إلى توقف مستمر..
*وكانت بحاجة فعلاً إلى ضمان البقاء…والخلود ؛ ولكن ليس عن طريق الوهم..
*ليس عن طريق خوذة بيضاء…كالتي يعتمرها رجال المرور..
*وحان وقتٌ شعرنا فيه أن جريدتنا – الرأي الآخر- قد (حصَّلت ده كله)…و زيادة..
*وحدث فعلاً ما تخوفنا منه ؛ فلا رأي…ولا آخر..
*والعاقل من تعامل بواقعية مع سنن الوجود ؛ فلا بقاء…ولا دوام…ولا خلود..
*لا النعمة تبقى…ولا الصحة…ولا العمر…ولا السلطة..
*ومن أهل السلطة هذه – تحديداً – من يتمنى أنْ لو يشتري ترياقاً ضد الزوال..
*وإن كان وهماً يخادع نفسه به ؛ مثل الخوذة البيضاء..
*ثم يطمئن إلى خلودٍ كالذي آمنت به خالدة…لا يُوصل أبداً لمرحلة (ده كلو)..
*ويجنبه حالة الجذع عند فقدان الكرسي..
*بل هو جذعٌ قد لا يقل عن جذع حاجة خالدة…لحظة شعورها بفقدان الحياة..
*و يا عزيزي أحمد بلال :
*تشتري (وهم) ؟!.
صلاح الدين عووضة – بالمنطق
صحيفة الإنتباهة