زهير السراج

تسليم المخلوع !!


* جزم المجلس العسكرى الانتقالى بأنه لن يسلم الرئيس المخلوع للمحكمة الجنائية، وقال أن محاسبته ستكون على منصات القضاء السودانى .. جاء ذلك في المؤتمر الصحفى الذى عقده رئيس اللجنة السياسية للمجلس الفريق (عمر زين العابدين) صبيحة أمس، وكرر ما جاء في البيان الأول بأن الرئيس المخلوع متحفظ عليه، ولم يوضح أين!!

* هذه الاجابة ستضعنا في تحد، نحن في غنى عنه، أمام المجتمع الدولى والمحكمة الجنائية الدولية التى تطالب بتسليم المخلوع ليدفع عن نفسه التهم التى وجهتها إليه المحكمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور عامى 2003 و2004، التى أثارت العالم على النظام السودانى، وجعلت مجلس الأمن يصدر بموافقة 11 عضوا منهم روسيا وامتناع 4 عن التصويت هم الجزائر والبرازيل والولايات المتحدة التى لا تعترف بالمحكمة والصين، القرار رقم 1593 في مارس 2005 ، بإحالة ملف جرائم دارفور الى المحكمة التى أجرت تحقيقات مكثفة بمساعدة الحكومة السودانية نفسها التى إستضافت أكثر من مرة المدعى العام للحكمة (لويس مورينو اوكامبو) وسمحت له بمقابلة بعض المسؤولين، وزيارة دارفور واللقاء بعدد كبير من الشهود بمعسكرات النازحين بالاقليم وإجراء تحقيقات تمخضت عن إصدار قائمة أولية بالمتهمين بلغ عددهم 51، أصدرت المحكمة أوامر بالقبض على أربعة منهم، هم الرئيس المخلوع ووزير الداخلية السابق عبدالرحيم محمد حسين، ووزير الدولة للداخلية السابق احمد هرون واحد قادة الجنجويد هو (على كوشيب)!!

* لم يقتصر إجراء التحقيقات على المحكمة الجنائية وحدها، بل إن الحكومة نفسها شكلت لجنة خاصة بها للتحقيق في الجرائم برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف، توصلت لنفس النتائج التى توصلت اليها المحكمة، وأوصت بتوجيه التهم لكثيرين وتقديمهم للمحاكمة، وقامت الحكومة بناءً على ذلك بتشكيل محكمة لم تتح لها الفرصة إلا لمحاكمة بعض صغار المتورطين في هذه الجرائم مما أضر كثيراً بمصداقية الحكومة في معاقبة مرتكبى الجرائم، خاصة مع رفضها لتسليم اى متهم للمحكمة الدولية والعداء الذى واجهت به المدعى العام لدرجة أن الرئيس المخلوع كان يصعد المنابر ليشتمه بشكل شخصى ويصرخ امام الجموع أنه (تحت جزمته) وكأن المشكلة شخصية بينه وبين (اوكامبو) الذى كان يؤدى عمله !!

* جرّت هذه المشكلة على السودان الكثير من المشاكل وفرضت على القيادة السودانية عزلة دولية شديدة، وأثرت على تعاملنا مع العالم والمؤسسات الدولية خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والمال، والذى كان السودان في أشد الحاجة إليه لحل مشاكلة الاقتصادية الضخمة، وعلى رأسها مشكلة القروض الخارجية التى ظلت تتراكم كل يوم حتى وصلت الى اكثر من 50 مليار دولار أمريكى، ومما زاد الامر سوءا عجز الحكومة عن سداد الارباح، فأضطر صندوق النقد الدولى والمؤسسات المالية الأخرى الى تجميد التعاون مع الحكومة السودانية، الأمر الذى أفرز مع الفساد المستشرى في الداخل وسوء إدارة الإيرادات والإنفاق الضخم على اجهزة الأمن وضعا غاية في السوء أضعف الحكومة وجعلها عرضة لابتزاز المبتزين من الحكومات والبنوك والأفراد، وخضوعها لشروط قاسية للحصول على الفتات مقابل إمتيازات كبيرة للشركات الأجنبية، والمثال على ذلك المساحات الضخمة من الاراضى الزراعية الخصبة في الشمالية وغيرها التى لا ينتفع منها السودان بشئ، بل يتضرر منها بشكل ضخم بنقصان مخزونه المائى الجوفى وخصوبة أراضيه!!

* كانت المحكمة الجنائية، ولا تزال، السبب المباشر في إبقاء الإدارة الأمريكية، رغم عدم اعترافها بالمحكمة، للسودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، الوضع الذى يعيق تعامل السودان مع المجتمع الدولى في أغلب القضايا، فكيف يمكن للعالم أن يتعاون ويتعامل مع دولة موضوعة على قائمة الارهاب، ورئيسها مطلوب للعدالة الدولية بتهم الابادة الدولية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟!

* أضعفت المحكمة أيضا الموقف السياسى للحكومة السودانية، وجعلتها تتخبط بين الأحلاف الإقليمية بحثا عن مخرج لعزلتها السياسية وجريا وراء المال، مما جعلها ترهن قرارها لجهات أجنبية انتهزت الفرصة لتفرض على النظام الحاكم جملة من السياسات والشروط القاسية للتعامل معه ومن أمثلة ذلك المشاركة في حرب اليمن، والتردد في اتخاذ المواقف الواضحة في معظم القضايا الاقليمية والدولية حتى التى تمس السودان بشكل مباشر مثل أراضيه المحتلة وسد النهضة ومياه النيل، والصراع الخليجى ..إلخ، وبدلا من تحقيق الشعار الذى رفعه النظام عند إستيلائه على السلطة (من لا يملك قوته لا يملك قراره)، فقد النظام كل شئ: قراره، وقوت شعبه، وعجز حتى عن توفير رغيف الخبز له !

* ليس هنالك أى شخص عاقل يريد لهذه الورثة المثقلة بالمشاكل أن تستمر بأى شكل من الأشكال، وإذا كانت قناعة المجلس العسكرى عدم تسليم المخلوع للمحكمة الجنائية، فعليه أن يسعى بصدق وجدية وعدل لمحاكمته على الجرائم الفظيعة التى ارتكبها (إن كان بالفعل لا يزال في السودان، ولم يهرب الى روسيا كما تزعم بعض الروايات)، وإلا ستظل هذه الورثة الضخمة تثقل ظهرنا وتكبلنا بالمشاكل من كل شكل ونوع، وفوق ذلك عدم تحقق العدالة للمظلومين .. وهو ما لا يرضى الله، ولا ولا يرضى المجلس العسكرى أو أى شخص آخر !!

مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة