عصام إحباط
في الرابعة والعشرين من العمر.. بدأ دراسة علم الفلسفة في الجامعة.. لكنه لم يواصل، بل ترك الدراسة وأصبح نصف عاطل يرسل له إخوته وإخواته من الخليج وأوروبا حاجيات متنوعة يبيعها ويعتاش منها.. لقبوه «إحباط» لأنه دائماً يتحدث عن الوضع المأساوي المحيط.. يطرح اليأس والأسى في كل تجمعات الحي.
يجد الشباب يتسامرون في النادي فيدخل عليهم محتجاً على ضحكاتهم والعالم كله حروب وكوارث ومشاكل.. يبدأ يخاطبهم في لهجة مسرحية: بتضحكوا يا شباب؟.. «يقولها في أسف عميق وهو يضرب بكفيه ويزفر».. تضحكوا والعالم بتآكل.. فلسطين كل يوم بموتوا فيها كم؟ العراق كل ساعة بموتوا فيهو كم؟ أفغانستان، وهنا في السودان الحرب دمرت كم؟ وشردت كم؟.. بتضحكوا؟.. فينبري أحدهم محتجاً: ضحكنا ياخي أصلو عملنا شنو يعني؟.. فيرد عصام بذات الحضور المسرحي: ما تعمل أي حاجة!! أقعد ساكت.. ساكت عن الحق.. يعني شيطان أخرس.. على الأقل حس ياخي.. العالم بحتضر يا شباب وإنتو قاعدين تتفرجوا.. وتضحكوا كمان.. فيتصدى له شاب آخر: ياخي لو سمحت ما تقعد تتفلسف لينا!!.. ينظر إليه نظرة راثية مشفقة ويقول في أسى: هسع انت قايل نفسك بني آدم «يصمت فترة حتى يتهيأ السامع للفقرة الجاية».. انت أمي ساكت!! «وبسرعة»: بتعرف كم لغة؟ بتعرف كمبيوتر؟ علاقتك «بالنت» كيف؟ نحن يا شباب بنرتع في غياهب الجهل.. عندكم الفقر مثلاً…
لا يواصل حديثه لأن السامر قد انفض وأصبحت الكراسي خالية.. أكتشف عصام إحباط إنه يحادث نفسه..
إذا رأيت شيوخ الحي حزانى خواطرهم مكسورة في أمسية من أمسيات تجمعهم للعب الطاولة.. إذا وجدتهم تركوا اللعب فجأة وسرح معظمهم إلى جهة بعيدة وبعضهم عيونه «رقرقت» فاعلم أن عصام إحباط قد زارهم وبث فيهم جرعات إحباطية على شاكلة: يا حجاج يا شيوخ بتلعبوا طاولة.. انتو فاضل ليكم كم سنة تعيشوها؟ وكلكم حجيتوا.. يعني ما فاضل ليكم إلا الموت.. بينكم وبين القبر شبر واحد.. صاح اليوم ما معروف بيجي متين.. أها لو جا؟! الواحد يقول شنو للملكين؟ يقول شنو يوم الحساب؟ يقول كنت بلعب طاولة؟!.. يتركهم يعانون في رثاء شديد للذات حيث تحيط بهم الذنوب وتسورهم الخطايا.. ويؤرقهم الإنصراف إلى الدنيا. أما نسوة الحي فإذا وجدتهن مثل «الفارشات» يقمن مندباً ومأتماً وعويلاً فلا تظنن أن أحداً قد مات.. كل الحكاية أن حظهن العاثر رماهن في طريق «عصام إحباط» وجدهن يتونسن ويضحكن «ويقرقرن» فحسدهن على ذلك فينفجر فيهن واعظاً:
يا نسوان ونستكن كلها ذنوب.. كبرتن بي جهلكن انتن ما شايفات النسوان بره.. في إنجلترا بقن رئيسات وزراء.. حتى في مصر القريبة دي النسوان بقن مفكرات وعالمات.. وأريتكن بعد ده كلو ماسكات درب الحق بلا القطيعة فلانة سوت وعلانة تركت.
هنا تبدأ النسوة في تصور حجم غفلتهن ويبدأن في الحزن.. والدمعتا قريبة بكت ونزلن دموعا تف.. تف.. هنا ينتقل عصام إلى الكلام الصعب جد.. وبنبرة فخيمة يواصل: عاينن كم واحدة كانت زي الوردة وفجأة سيد الوداعة شال وداعتو.. «ست تهاني» في عز شبابا.. أها كتلتا الملاريا في غمضة عين.. حاجة السرة كانت في أمان الله دخل عليها حرامي ضربا ضربة واحدة.. راحت في حق الله أطرن المرحومات الماتن السنة دي بس.. وين أمونة ونفيسة وحليمة.. عشمانة ورقية وست النفور وين هسع؟!
ولا يصمت عصام إلا بسبب تعالي وتير النحيب والبكاء من قبل النسوة وانسحاح دموعهن الثرة وعويلهن المستمر جعل عصام ذاته «يبرهن» ويشاركهن البكاء.. فقد أحبطهن تماماً حتى انتقل إليه الإحباط هو ذاته فأحبط نفسه معهن..
ويستمر عصام في إشاعة الإحباط في الناس «من طرف» الكبير قبل الصغير حتى أطفال الروضة تجده يحذرهم من شرب المياه من مواسير الروضة لأنها ملوثة، كما يحذرهم من أكل الحلوى والآيسكريم في الروضة لأنها تسبب الإسهالات المائية.. أصبح الناس يتحاشونه ما إن يظهر في أول الشارع حتي ينفض كل سامر ويفر الناس فرارهم من الأسد.
أصحاب حوانيت الحي ودكاكينه أصبحوا يطردونه ولا يطيقون حضوره حتى لو رغب في الشراء لأنه عندما يكون واقفاً أمام «سيد الدكان» لا يحضر الزبائن ويهربون إلى الدكاكين والبقالات البعيدة.
ما إن يظهر عصام إحباط في أول الشارع حتى تجد الناس زرافات ووحدانا يهربون.. ولكنه يصر على إشاعة إحباطه رغم أنه لا يجد من يستمع إليه.
احتار فيه أهله وقالوا يزوجونه حتى ينشغل ويترك الناس في حالهم ولكن كل فتاة يتقدمون لها تضرب صدرها بيدها وتصيح: بري يا يمة مالي بعرس عصام إحباط؟.. جنيت؟!
أخيراً أصبح مألوفاً أن تجد «عصام إحباط» ماشياً والناس يجرون منه كأنه كلب سعران… فلم يعد يجد تجمعاً يمارس فيها هوايته الإحباطية المحببة.
أخيراً جداً سرت شائعة بأن عقل عصام إحباط أصبح «حلو» والدليل أنهم رأوه ذات عصرية يخاطب مجموعة من أغنام الحي قائلاً: انتو قايلين روحكم غنم؟.. الغنم في هولندا!!
الصباح..رباح – آخر لحظة
[EMAIL]akhirlahzasd@yahoo.com[/EMAIL]