مِهن ومِحن (25)
على مدى ثلاث مقالات تناولت محنة الخادمات ومحنة من تضطرهم الظروف وأنا منهم الى الاستعانة بهن، وزبدة تلك المقالات أن ظروفا معينة تحتم على كثير من البيوت الاستعانة بخادمة أو أكثر، وأن من يسئ معاملة الخادمة فعليه أن يتوقع انتقامها (كما فعلت تلك التي كانت تضيف الكاكا إلى طعام أهل البيت الذي كانت تعمل فيه)، وفي نفس الوقت فإن من يترك الحبل على الغارب للخادمة قد يفاجأ بأنها تستخدم البيت لاستقبال عشيق أو شريك في اللصوصية تخبئ عنده ما تسرقه من أهل البيت، ولي هنا تجربة شخصية مع خادمة آسيوية، فقد لاحظنا أن أشياء صغيرة بعضها ثمين (خاتم/ سلسل ذهبي أصلي أو مغشوش) وبعضها زهيد الثمن مثل ملابس الأطفال، تختفي من البيت كل بضعة أسابيع، ووضعناها تحت المراقبة واكتشفنا أنها تتسلل من البيت في لحظات هجوعنا نهارا أو ليلا، وتسلم كيسا لسائق من جنسيتها، وعرفنا أنها تخبئ ما تسرقه منا عنده، وفي اليوم التالي حملت جواز سفرها وألغيت تصريح إقامتها معنا، وحجزت لها مقعدا في طائرة في مساء نفس اليوم، وحرصت على أن تكون الرحلة من النوع الذي يتم فيه الهبوط في ثلاثة مطارات وتغيير الطائرة مرتين لتكون مدة الرحلة نحو 24 ساعة عوضا عن خمس ساعات بالرحلات الجوية المباشرة، وعدت إلى البيت وقلت لها: يللا… إلى أهلك!! فصاحت في دهشة: أنت في شنو قول بابا؟ قلت لها: أنا مش بابا مال واحدة حرامي كبير، وأنت الحين في روح بلاد وأغراض عند دريول (سائق) مال جارنا أنت ما راح يشيل بلاد… فجمعت حاجياتها على عجل ودموع التماسيح تنهال من عينيها، وأوصلتها حتى بوابة الجوازات في المطار ثم توجهت إلى بيت جاري، ولحسن حظي وجدت السائق الذي كان يتسلم ما تسرقه تلك الخادمة من بيتي جالسا في الشارع فقلت له: في أغراض مال بيت مال أنا أنت يشيل من خدامة ولو ما جبت الأغراض الحين أنا يجيب شرطة، فحاول أن يتعنتر ويحتج: أنا ما في حرامي وأنا يجيب لك الشرطة لو أنت قول مثل هذا كلام.. ولحسن حظي خرج جاري الذي يعمل معه السائق، وأبدى تعجبه لاحتدام الجدل بيني وبين السائق، فحكيت له أمر السرقات وأن المسروقات لدى السائق الذي يعمل معه، ولم يقل جاري كلمة بل دخل الى البيت ثم عاد بعد دقائق يجرجر كيسين ضخمين وسأل السائق: شنو هادا؟ وتلجلج الرجل وفتح جاري الكيسين واكتشفت فيهما أشياء تخصنا لم نكن نعلم باختفائها. ولهذا الحكاية نهاية سعيدة فقد أخبرت جاري بقيامي بتسفير الخادمة فقال لي: باكر إن شاء الله ابن ال…. هذا يكون أيضا في طريقه إلى بلاده.
وبالمقابل قرأت عن خادمة في الخرطوم سمعت ربة البيت تصرخ عندما ضبطت لصا يحاول سرقة أشياء من البيت في ساعات الصباح الأولى وعندما دخلت الخادمة غرفة مخدِّمتها وجدت اللص شاهرا سكينا في وجهها لإخافتها لتصمت، فهجمت عليه الخادمة وانتزعت السكين من يد اللص وأصيبت بجراح غائرة في اليد، والشاهد هنا هو أن هناك خادمات صادقات في «الولاء» لأصحاب البيوت التي يعملن فيها إما لأنهن مجبولات على الوفاء، وإما لأنهن يعاملن بإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
وأختم حديثي عن مهنة الخدمة المنزلية بالقول إن بين الخادمات – كما هو الحال بين العاملين في مختلف المهن – الصالحة والطالحة، ولكن مهنة الخادمة حساسة، ومن ثم ينبغي التعامل مع الخادمة بـ«حساسية» هي مزيج من الحس الإنساني وبمنطق «لا تكن ليِّنا فتُعصر ولا يابسا فتُكسر».
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]