قوى التغيير بعد الموافقة على المقترحات الإفريقية هل تتخلى عن شروطها المسبقة؟
ربما أكثر المتشائمين عند تفجر الثورة الشعبية في أبريل الماضي التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير، لم يخطر على باله أن يتوه درب الثورة وتتعرج في مسارها نحو الوفاق السياسي الذي من المفترض أن ينقلها من خانة الفعل الثوري الملتهب إلى خانة الحكم المتفق عليه من الأطراف التي شاركت في الحراك، مدنيون يمثلون ثورة الشعب وعسكريون يمثلون انحياز القوات المسلحة للحراك الشعبي .
استقطابات بالجملة
لاشك أن عدة أسباب أدت إلى انسداد المسار الوفاقي بين ممثلي الثورة المدنيين والعسكريين في المجلس العسكري أهمها استقطابات داخلية حادة وخارجية.
فالمعروف أن قطاع تجمع المهنيين المنضوي تحت راية قوى الحرية والتغيير لعب دوراً بارزاً في الحراك الجماهيري بالتخطيط والسند المعنوي، لهذا ارتضى جل الشباب الثائرين بعد النصر أن يصبح مفاوضأ نيابة عنهم مع المجلس العسكري الانتقالي بغرض نقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة، ولأن معظم قوى الحرية والتغيير لاقت التضييق من النظام المدحور والعنت الكثير في عهد الإنقاذ من الاعتقالات وتوابعها القاسية، دخلوا قاعة التفاوض بروح الثائر المغبون الذي تمثل أمامه شعارات الثورة أمام عينيه وتخرج حنجرته هتافات الرفض اللحظي لا برؤية المفاوض المحنك الذي يرى تضاريس المواقف اللحظية والمرحلية القصيرة والإستراتيجية والتفريق بين المعاني المجردة والواقع الماثل على الأرض وصولاً للهدف الأسمى، وهو تحقيق حلم الحكومة المدنية المؤقتة لتعبر بالبلاد إلى رحاب التحول الديمقراطي المستدام ليتم طي حقبة مظلمة وتجاوز أرث تجارب ديمقراطية أفشلتها الصراعات والتبارز في غير معترك .
فمنذ البداية رفع تجمع قوى الحرية مطالبه بحقه في الحكم السيادي والمدني متمسكين بمبدأ نظري مقبول من حيث المبدأ، وهو أن دور العسكريين هو حماية الوطن وليس الاشتغال بالسياسة، بيد أن الواقع الظرفي يقول إن الوضع السياسي الحالي لا يمكن تجاوز تضاريسه، كما أن العقل الجمعي في القوات المسلحة ربما يرى أن انحياز أفرادها للجماهير ليس من العدل أو الحكمة في هذه الظروف أن يهمش دورها ويختزل في حراسة عسكرية نمطية للتحول وتكتفي بدور المتفرج أمام قوى مدنية رغم إخلاصها ووطنيتها لكنها لم تبارح أنفاسها الساخنة بعد غمار معاركها مع النظام السابق، ولم ترسُ بعد في ميس هادئ وهي تقود زخم الثورة الطافح بشعاراته الملتهبة وهتافه الداوي، ثم تدلف بذات الهياج الثوري في معركة التفاوض بدلاً من استبطان تلك الروح بوجدان الثائر وعقل المفاوض البارع الذي لا ينظر للنصر بكم الأجندة المطلبية المرفوعة بل في الوصول للهدف الكلي وفق تكتيكات ذكية، توازن بين شطب أجندة ثانوية وبين تمرير الأجندة المركزية، كما فعلت قوى التجمع الديمقراطي المكون من عدة تيارات سياسية عقب انتفاضة أبريل 1985، حيث لم يرفع التجمع آنذاك سقف المطالب الكبيرة أمام الجماهير ولهذا تحرر من ضغوط الجماهير الثائرة بروح الثورة ثم قادها في هدوء إلى التحول الديمقراطي بالوصول مع المجلس العسكري إلى تفاهمات عملية بعيدة عن التشنج .
أجواء المفاوضات
جرت المفاوضات بين طرفي المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أجواء مليئة بالغبار العالق بسبب الاستقطاب الداخلي والخارجي وبسبب المسلمات السياسية النظرية أو ارتفاع السقف التفاوضي للأطراف سيما من جانب الحرية والتغيير والتي كانت تنشر شروطها على الهواء الطلق في أجواء ثورية ملتهبة بدلاً من استصحابها بهدوء داخل قاعة التفاوض للأخذ والرد حولها، وصولاً لتحقيق الأهداف المنشودة التي يرمي إليها الثوار .
أمل جديد
قبل أيام طرحت المبادرة الأثيوبية، كما طار وفد من الحرية والتغيير إلى أديس أبابا لهذا الغرض، غير أن هذه الخطوة انتقدها تجمع المهنيين باعتبار أنهم يفضلون الحوار الداخلي الخالي من المؤثرات الخارجية.
إلا أن تحولاً جديداً طرأ على مسار التفاوض من شأنه أن يحدث اختراقاً كبيراً في مسارها في حالة موافقة الطرفين عليها، فقد أعلنت قوى الحرية والتغيير أن الوسيط الأثيوبي محمود درير قدم مقترحاً للحل يقضي بتشكيل مجلس مناصفة بين الطرفين العسكري والمدني بواقع سبعة لكل منهما على أن يتوافقا على اختيار الشريك المدني الخامس عشر بالتراضي، وأن تكون الرئاسة دورية، كما أكدت قوى الحرية على إبقاء بنود الاتفاق السابق بحسب تأكيدات الوساطة الإفريقية.
وفي هذا الإطار، أعلنت قوى الحرية والتغيير موافقتها على المقترح وقال أحد أطرافها خالد عمر إنهم رفعوا مقترحاتهم للوساطة الإثيوبية لكنهم لم يتلقوا رداً عليها.
غير أن المعروف أن قوى الحرية والتغيير كانت قد أعلنت شروطاً مسبقة لاستئناف التفاوض مع المجلس العسكري منها التحقيق الدولي في أحداث الاعتصام واعتراف المجلس بمسئوليته عن الحدث، وعودة خدمات الأنترنت مجدداً.
لكن يبدو أن الحوار عبر الوسيط الأثيوبي سيعمل على تجميد هذه الشروط مؤقتاً في انتظار تطورات الأحداث لصالح المبادرة الإفريقية.
لكن ربما تنجح الواسطة الخارجية أو الداخلية في أن تقنع المجلس العسكري بعودة خدمات الإنترنت، ولكن يبقى شرط تنفيذ التحقيق الدولي في أحداث اعتصام القيادة العامة غير مرحب به من قبل المجلس العسكري، لهذا ربما تحاول الوساطة إقناع قوى الحرية والتغيير أن تقبل مؤقتاً بالمحاكمات الداخلية بعد انتظار نتائجها وتقييم حيثياتها، من أجل عبور الأزمة المستعصية بالنظر إلى الواقع الظرفي الملتهب الآن في الساحة على كافة أصعدتها.
موقف المجلس العسكري
المجلس العسكري تحفّظ على المبادرة الأثيوبية، وطالب بدمجها مع المبادرة الأفريقية والتي لم يتم الإعلان عن محتواها إلى الإعلام حتى الآن، وقال نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو إن تحفظهم الأساسي هو في نسبة المجلس التشريعي والتي حددت بنسبة 67% وأمنت عليها الوساطة الأثيبوبية، لكن إذا ما شملت الوساطة الإفريقية نسبة مغايرة لهذه النسبة وهي المناصفة كما قالت بعض المصادر فربما قد تتحفظ عليها قوى الحرية لكنها قد توافق عليها في النهاية للمحافظة على بقية المكتسبات ولأن الوساطة الإفريقية مدعومة دولياً حتى من مجلس الأمن.
أما المجلس العسكري، فربما يوافق على مقترح المداورة الرئاسية ومناصفة المجلس السيادي لكل طرف إذا ما ضمن شخصية قومية معتدلة تمثل الطرف الخامس عشر علاوة على أن حصتهم في قيادة القوات المسلحة عبر وزارة الدفاع وقيادة الشرطة لوزارة الداخلية، بالإضافة إلى تفاهمات توافقية مع الحرية والتغيير حول السياسة الخارجية للبلاد، بحيث لا تتضرر بعض الاتفاقات القائمة الآن، وكذلك الضمانات الكافية حول رؤية الحرية والتغيير حول هيكلة القوات النظامية، كلها بنود ربما تقود إلى مواقف أكثر مرونة من قبل المجلس العسكري.
الشيوعي والاتفاق
بالطبع لن يجد الاتفاق الأخير الإجماع الكامل من قبل كل الأطراف المكونة لقوى الحرية لاتساع مكوناتها وتباين مواقفها السياسية.
لكن ليس من المنتظر أن تتخذ المكونات الرافضة للاتفاق مواقف راديكالية تخرجها من المنظومة، فالشيوعي ليس من المتوقع أن يتمرد على تلك المنظومة وإن تحفظ على الاتفاق الأخير سيما في هذه الظروف المفصلية، باعتبار أنها تمثل له السند السياسي القوي ومدخلا مهماً لتحقيق بعض الخطوط العريضة لسياساته المتمثلة في حكم مدني يفضي إلى تحقيق حريات تتيح له الحراك السياسي والتنظيمي دون ضغوط أو تقاطعات أمنية، وذراع مهم يتكئ عليه عبر تحالفات مستقبلية في الخارطة السياسية القادمة .
أخيراً
هل تشكل مقترحات الوساطة الإفريقية المدمجة مع المبادرة الأثيوبية في حالة إعلانها وموافقة الأطراف عليها الحل الناجع للأزمة المستفحلة ونقل البلاد إلى مرحلة جديدة سماتها الثقة المشتركة والتوافق على المبادئ الوطنية الخالصة، أم تعود إلى مربع الشقاق الأول، وعندها لن يستطيع أحد التكهن بمآلاتها القاتمة.
قراءة أحمد طه صديق
الخرطوم (صحيفة الصيحة)