تحقيقات وتقارير

لجان الأحياء .. ملح الثورة وسُكرها .. كان نافع موقنا أن الأمر مجرد (ثلاثة شفع حرقوا لستك )


الملثمون الذين ظهروا في أيام الحراك الاولى أين هم؟

التعامل الأمني مع التظاهرات زاد من غضب الشعب فانفجر

قوش كان يظن أن ثلاثة آلاف جندي سيحسمون المعركة ولكن…

سخرية (نافع) وتندر قيادات نافذة في النظام المباد دعمت الثورة

قادة النظام وإعلامه كانوا يمنون أنفسهم بفشل الثورة عند خفوتها أيام امتحانات الشهادة السودانية

فتية مجهولون يعملون من خلف الكواليس وداخل الغرف المغلقة طيلة أيام الحراك الجماهيري صنعوا ثورة عظيمة دون من ولا أذى عبدوا الطريق أمام الجماهير الغفيرة فامتلأت الشوارع بفضل مواصلة ليلهم بنهارهم.. اجتماعات تعقد وتفض ثم مواكب ومسيرات هادرة في شوارع الخرطوم وكل السودان ملاحقات أمنية اعتقالات ضرب وتنكيل وتعذيب يحاكون الصحابة في صبرهم كان جلاديهم يرتعدون مثلما يرتعد العقاب الهرم أمام فريسته الشرسة، كونوا لجان الأحياء في نهايات ديسمبر الماضي وتحملوا كل الأذى حتى تحقق النصر بعد 5 أشهر من النضال المتواصل، كانت الثورة تحاكي فيضان النيل ترتفع مناسيبها ثم تنخفض لكن شبابها الثائر لم يعرف الإحباط إليه سبيلا رغم البطش والتضييق كانوا يبثون الأمل في نفوس السودانيين المتعبة والمرهقة بسبب الغلاء الطاحن والبطش والمحسوبية والفساد، لم يكن أمامهم من خيار سوى إسقاط النظام، أو دونه موت جليل درب كل الشرفاء.

التعامل الأمني مع الثوار ساهم بشكل كبير في نجاح الثورة فكلما صوبت قوات النظام المباد ومليشياته البندقية على صدور الثوار هزت الكنداكات بجذع الثورة بالزغرودة الملهمة فتساقط على الثوار عزيمة وإرادة لمواصلة المشوار. كان مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني حينها الفريق صلاح عبد الله قوش يؤكد أن هذا الحراك لن يستمر طويلا ويقدر إعداد الثوار بالمئات ويقطع بأنهم لا يستطيعون تنظيم ثلاثة مواكب في يوم واحد فكان التحدي عندما عزم الثوار على صنع الفلك في أحياء بعيدة عن القصر الجمهوري كان قادة النظام يقابلون هذا الفعل بمزيد من السخرية والتندر لكن أبطال الثورة كانوا يعلمون علم اليقين أن الطوفان قادم وأن لا عاصم حينها من غضب الشعب. هكذا استخف النظام البائد وقادته بما يصنع الثوار داخل الأحياء.

كان قوش يقول إن اللجنة الأمنية أعدت ثلاثة آلاف جندي للدفاع عن نظامهم الذي كان يلتقط أنفاسه الأخيرة بيد أنه كان يستغرب استمرار الثورة رغم البطش والتنكيل كان الجنود يطلقون النار تارة وقذائف الغاز المسيل للدموع تارة أخرى داخل الأحياء بل داخل المنازل والغرف الخاصة حصدت ذخيرتهم الحية أرواح الشهداء وصبت كثير من الزيت على نار الثورة المشتعلة أصلا واصلت المليشيات في استفزاز الشعب الثائر فكان يرد عليهم بمزيد من المواكب والتظاهرات الليلية. كانت الثورة بعد كل موكب تكسب أعدادا جديدة الناس يدخلون في المواكب أفواجا بعد كل لقاء جماهيري للرئيس المخلوع ومعاونيه. كان نافع موقنا أن الأمر مجرد (ثلاثة شفع حرقوا لستك ) حتى أنه سخر في آخر أيام النظام من الدعوة التي أطلقتها قوى الحرية والتغيير لمليونية 6 أبريل فكان الطوفان حاضرا عندما أفلح هؤلاء (الشفع) في الوصول إلى ميدان القيادة العامة.
كانت الأحياء تشتط غضبا.. كل البيوت والأسر كلها الشباب والنساء والشيوخ والأطفال كل فرد يقدم للثورة بما يستطيع الأطفال يضرمون النار على إطارات السيارات ويشيدون المتاريس والكنداكات يجهزن الخل والكمامات ويشرفن على العيادات الميدانية المتحركة الأمهات يصنعن الطعام ويحضرن الماء البارد والعصائر يضعنها على امتداد مسارات المواكب التي كانت تحدد سلفا في جدول تصدره قوى الحرية والتغيير. كان الثوار يتوافدون إلى الأحياء المقرر لها أن تخرج إلى الشوارع وفق الجدول في وقت كانت المليشيات وقوات النظام البائد تتربص بهم كان الشباب يتسللون للأحياء بحذر حتى إذا ضمنوا أنهم وصلوا إلى أرض الميعاد يطلقون حناجرهم بالهتاف عند الساعة الواحدة تماما بتوقيت الثورة عقب الزغرودة الشهيرة (حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب).

يقول أحمد إنهم كانوا يقابلون البمبان بالهتاف والزغاريد والرصاص بصدور عارية كانوا عزلا لا يحملون في قلوبهم غير الحب للبلد وفي أياديهم أعلام العزة والشموخ والفخر بسودانيتهم المطلب واحد (تسقط بس). كان النظام يصر على أنهم مجرد (صبية) يساندون (أشباح) مثلما وصفهم وزير داخلية النظام المباد حينها أحمد بلال عثمان، وفي ذات الوقت كانت الاستعدادات العسكرية على الأرض تكذب أقوالهم فقد كانت مليشيات المؤتمر الوطني ونظامه تتجمع بالآلاف في أوكارها يصرفون عليها المليارات من أموال الشعب السوداني ليقتلون بها الشعب ذاته.
كان الملثمون يقتحمون البيوت يدخلونها من أي مكان دون استئذان يدخلون على النساء بلا سترة يروعون الأطفال ويقتلون الشيوخ بالغاز المسيل للدموع يمتطون عربات نصف نقل (بكاسي) بلا لوحات يرتكبون جرائمهم ثم يمحون الأثر. أنكرهم جهاز الأمن والشرطة رغم أنهم كانوا يتحركون في الشوارع العامة والشمس في كبد السماء دون أن تعترضهم عربات دوريات الشرطة أو الأمن التي كانت تنتشر وبكثافة في الشوارع والميادين، فأين اختفى هؤلاء المجرمين هل ابتلعتهم الأرض بعد أن انتفض شرفاء النيابة العامة مطالبين بوضع حد لتلك الجرائم في تلك الأيام؟ أحمد طالب بأن يشمل التحقيق الجنائي في جرائم القتل والاغتصابات والانتهاكات التحقيق أيضا في الجرائم التي ارتكبتها القوات الملثمة.
أيام الحراك الأولى

اقتحام المنازل شكل قوة دفع كبيرة للثوار لحماية الأحياء بالمتاريس التي نصبوها على مداخل كل حي ثائر، فقد وجه الثوار ضربة كبيرة لقوات النظام وسيارات الدفع الرباعي عندما تمكنوا من اصطياد عدد من السيارات عقب فرار أفراد القوة من أمام الثوار السلميين تلك شكلت هزيمة نفسية قاسية للقوات وفي ذات القوات دفعت بالثورة إلى الأمام بعد أن سقط قناع القوة المتوهمة في مخيلة الثوار رغم أنها قوات ومليشيات منهكة ومتعبة نتيجة الاستعداد المستمر لشهور.

يضيف أحمد أن بركان الثورة هدأ بقصد عقب دخول طلاب الشهادة السودانية لقاعة الامتحانات فقد قررت لجان المقاومة التوقف عن العمل الثوري اليومي داخل الأحياء فيما تبقى على اشعار النيران على إطارات السيارات وتسيير التظاهرات الليلية في الشوارع الرئيسية. فوجد إعلام النظام من ذلك التوقف مادة دسمة تناولتها وسائل إعلام النظام البائد بشراهة للترويج لفشل الثورة وبث الإحباط في نفوس السودانيين بيد أنها كانت أمانيهم التي تبددت في أول مواكب انطلقت في الشوارع العامة عقب آخر امتحان في جدول امتحانات الشهادة السودانية حيث ثار البركان من جديد فنفث حممه تحت كرسي الرئيس المخلوع، فبلغت الثورة ذروتها بعد محاولات عدة لمفارقتها الأحياء الحاضنة ومن ثم التظاهر في الطرقات والأسواق من جديد يدفعها كيانات للمهنيين بتنظيم الوقفات الاحتجاجية والإضرابات ثم تحول كل الشعب إلى ثورة فكانت نتيجتها في المحصلة النهائية وصول الثوار إلى ميدان القيادة العامة في السادس من أبريل وإقامة أعظم اعتصام سلمي في تلك البقعة أجبرت اللجنة الأمنية للنظام بالانحياز إلى مطالب الجماهير الهادرة الغاضبة والمصممة على إسقاط النظام.

لم يكن خيار الخروج من الأحياء إلى براحات البلد لتنظيم التظاهرات والمواكب سهلاً ـ كما سنعرف في ثنايا هذا التحقيق في الحلقات القادمة ـ بل كان القرار مرا ومتوقعا أن يدفع الثوار ثمناً باهظاً نتاج القبضة الأمنية والملاحقات والاعتقالات الاغتيالات التي كانت تحدث بصورة يومية في فترة ما قبل الاعتصام كانت مليشيات النظام تصوب بنادقها على صدور الثوار لكن العزيمة كانت أقوى من البندقية كان الجميع يهتف (الطلقة ما بتكتل يكتل سكات الزول)، كلما سمعوا صوت الرصاص والقنابل الصوتية التي كانت موجهة ناحية مواكب الثوار مع سبق الإصرار والترصد لم يكن أمام الشباب الا تكملة المشوار والوفاء للشهداء الأوائل، كان الخروج من الأحياء يعني الموت الجماعي لكن الكاميرات التي كانت توثق لجرائم النظام لعبت دوراً حاسماً في خفض عمليات القتل الممنهج والإصابات الخطيرة، مثلما لعب قروب منبرشات دور جهاز مخابرات الثورة في كشف وفضح كل من صوب سلاحه وقتل الثوار العُزل.

علي الدالي
صحيفة الجريدة