هل يفقد السودان جنوبا آخر؟
عادت مخاوف التشظي والانقسام لتلقي بظلالها في الساحات السياسية والثقافية والاجتماعية، مع نجاح السودانيين في إسقاط نظام حكم الرئيس السابق عمر البشير في وقت وجيز، وعاد السؤال مجددا عن هوية السودان العرقية والثقافية، وعن دور المثقف السوداني في مراحل الانتقال السياسي في ترجمة مطالب التحرر إلى مشاريع سياسية وثقافية كبرى تبني ولا تهدم.
وتُثير الأوضاع الانتقالية التي يشهدها السودان اهتمام النخب الثقافية التي تخشى من تدهور الوضع السياسي إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والجهوي، ما يؤدي إلى تكرار تجربة انفصال جنوب البلاد في مناطق النزاع المسلح (جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور) حال لم تخاطب النخب السودانية تلك الجبهات الملتهبة برؤية سياسية جديدة.
وظلت عدد من الحركات المسلحة التي تنشط في مناطق مختلفة بالسودان، تشكو من التهميش السياسي والثقافي، ورفعت من أجل هذه المطالب السلاح قبل أن يتطور الأمر لدى بعضها مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو للدعوة إلى تقرير المصير أسوة بدولة جنوب السودان الوليدة.
وظلت قضية الهوية في السودان، تطرح في الرواق الثقافي من أيام الجدال في ستينيات القرن الماضي حول ما إذا كان “السودانيون “عربا أم أفارقة”، “مسلمين أم غير ذلك”، وطرحت أيضا بأشكال آخرى مثل التوفيق بين الاثنين أو ما عرف ثقافيا بمدرسة الغابة والصحراء أو الأفروعروبية.
في هذا الصدد، ناقش أكاديميون وقادة سياسيون في “مركز طيبة للصحافة” بالخرطوم الأسبوع الماضي، القضية في إطار احتمالية فقدان السودان لأجزاء جديدة منه نتيجة التجاذبات الجهوية والتباين الثقافي في البلاد، على غرار ما حدث من انفصال جنوب البلاد عام 2011م في عهد الرئيس المعزول عمر البشير الذي ثار عليه السودانيون وأسقطوا نظامه في نيسان (أبريل) الماضي.
“عربي21” رصدت الندوة التي تحدثت فيها بشكل رئيسي المرشحة لرئاسة الوزراء خلال الفترة الانتقالية بروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه، الأكاديمية المتخصصة في مجال التأريخ والعلوم السياسية، محذرة من أن يفقد السودان جنوباً آخر، داعية إلى الالتفات للحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وشددت على ضرورة إيلاء قضية السلام أولوية قصوى، والتعامل معها بأفق مفتوح، وعدم النظر إلى تحقيق المكاسب الحزبية أو الذاتية، ورأت أن قضايا تلك المناطق يجب أن تتصدر المشهد.
ودعت صراحة إلى فصل الدين عن الدولة في الفترة المقبلة، وأكدت أن الجنوب لن يعودة مرة ثانية للشمال، وطالبت بالاعتراف بالتعددية وعدم زج الدين في الدولة والاعتراف بالأقليات، ونوهت لأخطاء أدت لانفصال الجنوب منها زج الدين في الحكم، ورمت باللائمة على تطبيق الشريعة الإسلامية لمدة 30 عاما، وقالت: “هنالك لعب باسم الدين خلال الفترة الماضية”.
وقدمت طه، فكرة تاريخية عن تاريخ انفصال الجنوب منذ ما يعرف بقانون المناطق المقفولة في العام 1946، فضلا عن مؤتمر المائدة المستديرة في العام 1951 والذي أتاح فرصة تواصل جنوب السودان مع الشمال وفقا لقرار المستعمر البريطاني، بينما كانت قضية الفديرالية واحدة من الأمور المرحلة على مر العهود والحكومات التي تعاقبت على حكم السودان.
ورأت فدوى أن كافة هذه الحكومات لم تقم باعطاء، أي استحقاقات مباشرة للمواطن الجنوبي، بل أهملت مجمل القضايا التي كان من شأنها الحفاظ عليه.
لكن القيادي الإسلامي بحزب المؤتمر الشعبي الدكتور محمد الأمين خليفة، رأى أن انفصال جنوب السودان ليس بسبب الدين، وانتقد الدعوة لعلمانية الدولة، وقال إن العيب ليس في الشريعة الإسلاميىة ولكن في التطبيق.
وأوضح أنه ليست هنالك حاجة لإكراه الناس على الدين بأي حال من الأحوال، وأكد أن نظام البشير أخطأ في تسمية الدستور بالإسلامي.
القيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير رئيس حزب المؤتمر السوداني، المهندس عمر الدقير، شدد على ضرورة أن تكون الفترة الانتقالية، هي فترة مصالحة وطنية شاملة، دون إغفال مبدأ المحاسبة، وعدم الإفلات من القانون وألا يكون فيها إقصاء لأحد.
وقال خلال حديثه بالندوة: “المطروح الآن من قوى الحرية والتغيير أن تأخذ عملية السلام والمباحثات فيها أولوية قصوى”. وأضاف: “ستمضي جنباً إلى جنب مع الملفات الأخرى ذات الأهمية الاقتصادية ـ العدالة ـ تصفية دولة الحزب الواحد ـ ترسيخ الديمقراطية، لأنه بلا سلام لن يتحسن الاقتصاد، ولن يكون هناك تحول ديمقراطي”.
ودعا الدقير لما أسماه “مواجهة الأسئلة الصعبة”، حتى لا يفقد السودانيون جزءا سودانيا آخر، وقال: “يجب الاعتراف بالآخر، وأن كل الناس سواسية ولا إقصاء لأحد، هذا حجر الزاوية في المشروع الوطني الديمقراطي”.
ويشير الدقير إلى أنهم يطرحون مبدأ “العدالة الانتقالية” لتضميد الجراح، ورتق النسيج الوطني، وتحقيق المصالحة الشاملة، مبيناً أن هناك نماذج عديدة للعدالة الانتقالية، منها ما حدث في جنوب أفريقيا، وألا تستأثر أية مجموعة على أخرى، ورأى أن التنوع مهم وعنصر إثراء، قائلاً: “حتى المجتمعات التي حققت الانصهار، يظل تباين الرؤى هو الوقود والدينمو المحرك لحيويتها وأن تمضي للأمام”.
ورأى الدقير أن خطاب “الاستنارة” و”الحداثة” الجاري الآن، إذا أتيحت له الفرصة ولم يقطع له الطريق، سيكون له المستقبل.
ونبه إلى أن التنوع لا يمكن إدارته إلا بنظام ديمقراطي، واستطرد قائلاً: “يجب أن تصطرع كل هذه الرؤى في المواعين الديمقراطية المعروفة، لتعبر عن الوطن”، ونوه إلى أهمية أن يكون هناك رأي عام متاح له التعبير عن نفسه، وبرلمان منتخب بصورة حقيقية، وأجهزة إعلام تتمتع بكامل حرياتها.
عربي21