“صناعة” الكيانات السياسية .. حالة فوضى ترعاها الدولة
يشهد المسرح السوداني على صعيده السياسي في راهن الوقت حالة مزعجة من السيولة السياسية، بدت أشبه بحالة الانفلات الأمني والسيولة الأمنية. ولعل أوجه الشبه بين الظاهرتين (السيولة الأمنية، والسيولة السياسية)، هو الانزلاق نحو الفوضى وتجاوز الضوابط القانونية والأخلاقية التي تصب في محيط الأهداف العامة والمصلحة العليا للدولة، والتكريس للمصالح الخاصة والمنافع الذاتية.
ومعلوم أن كل انزلاق أو انفلات سواءً أكان أمنياً أم سياسياً، له وسائله الخاصة به لتحقيق أهدافه غير المُعلنة. فإذا كان السلاح وسيلة للحصول على الأهداف المرسومة في حال الانفلات الأمني، فإن الابتزاز السياسي وصناعة الكيانات السياسية الوهمية أيضاً هو وسيلة لنيل “المراد” في حال الانفلات السياسي..
تناسل الأحزاب:
حالة الانفلات السياسي الناتجة عن السيولة السياسية التي نود أن نُلقي عليها الضوء في سياق هذا التحليل، هي ظاهرة تناسُل الأحزاب والحركات المسلحة والتيارات السياسية وتصاعد أعدادها على نحو يصعُب حصرها بما يمكن وصفه بالفوضى المُدمرة..
حالة السيولة السياسية التي أفرزت هذا النوع من الانفلات السياسي الذي تشهده بلادنا في الوقت الراهن، يبدو أكثر تهديداً للاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني على حد السواء خاصة إذا قارناه بحالة الانفلات الأمني بوجه عام وذلك للأسباب التالية :
أولاً: حالة السيولة الأمنية، والانفلات الأمني ظاهرة تواجه إجماعاً كاملاً بإدانتها ومحاربتها، وهو أمر يصعُب إسقاطه على حالة السيولة السياسية التي تحتمي بالقانون بعد إجراءات عملية التسجيل.
ثانياً: السيولة الساسية هي محصول لغرس رعاه النظام المخلوع، وبعد سقوطه رعاه المجلس العسكري وغذّاه بالاستقطاب السياسي، ولهذا أضحت السيولة السياسية تستمد “شرعيتها” من رعاية السلطات لها وقانون الأحزاب الذي شجع هذه الفوضى من حيث التساهل وغياب الشروط والضوابط الصارمة في عملية اعتماد هذه الأحزاب.
ثالثاً: الانفلات الأمني يُصنف على أنه عمل إجرامي وإرهابي ويمكن أن يُعامل بالحسم القانوني والعسكري، بينما السيولة السياسية والانفلات السياسي يُصنف على أنه عمل سياسي مشروع ترعاه الدولة الشمولية وتستمد بقاءها منه..
ممكن الخطورة:
وتأسيساً على النقاط الثلاث أعلاه، يمكن القول إن خطورة السيولة السياسية التي أنتجت حالة الانفلات السياسي الحالية تكمن في أنها حالة ترعاها الدول الشمولية وامتداداتها والأنظمة الدكتاتورية التي تجد نفسها مضطرة اضطراراً لصناعة قوى سياسية تستمد شرعيتها منها، لتسويق نفسها على أنها نُظم ديمقراطية، لتجنب الانتقادات من قبل مجموعات حقوق الإنسان والمجموعات التي تناصر الديمقراطية، وعندما يشتد عليها الضغط تلجأ الأنظمة الشمولية عادة إلى حيَّل لتجميل بها وجهها أمام العالم الحر وتلبس قناع الدولة الديمقراطية وهذه خطوة تستلزم إجراء انتخابات عامة، مما يحتم عليها (صناعة) و(استنساخ) أحزاب تخوض الانتخابات بشكل صّوَري للديكور فقط، وهذا ما فعله النظام المخلوع ومضى على هداه المجلس العسكري.
تركة ثقيلة:
بعد نجاح ثورة ديسمبر، شهدت الساحة السودانية ميلاد تنظيمات سياسية جديدة، مثل الأحزاب الأهلية والقبلية وغيرها، وكذلك التنظيمات الشبابية الثورية الأخرى، وقد وجدت هذه الأحزاب والتنظيمات الجديدة رعاية كاملة واهتمام من الإعلام الرسمي (تلفزيونات وإذاعات الحكومة بالإضافة إلى وكالة الأنباء الرسمية سونا)، ما يعني رعاية السلطات لها، مما ضاعف عدد هذه الكيانات.. ويقول بعض المهتمون بالشأن السياسي أن عدد الأحزاب والتنظيمات السياسية والحركات والتيارات بلغ أكثر من (200) حزب وحركة وتيار سياسي، الأمر الذي يشير إلى حالة نادرة من الفوضى والسيولة والانفلات السياسي.
أهداف مختلفة:
بإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار المطالب التي نادت بها من قبل الأحزاب المصنوعة التي اصطلح على تسميتها بـ(أحزاب الفكة)، و(المستنسخة) وكذلك أحزاب الحوار، وأحزاب السلام، يدرك المراقب أن القاسم المشترك لأهداف ومطالب هذه الأحزاب هو المناصب والمواقع والتوظيف في الحكومة والمحاصصة، وبناء عليه فإن هذه المطالب تظل هي المنطقة الوسطى التي تقف عليها غالبية هذه الأحزاب والتظيمات التي تبدو على كثير منها سمات الانتهازية والتكالب على المناصب والمواقع والاستعداد لمؤازرة ومساندة السلطة القائمة التي (تمنح) المناصب والمواقع والتوظيف و(تهب) السيارات والخدمات والتسهيلات والامتيازات، أو هكذا تبدو صورة هذه التنظيمات في المخيلة السودانية..
المخاطر المحتملة:
أكبر المخاطر التي يمكن أن تتسبب فيها “سيول” هذه الأحزاب والتنظيمات على هذا النحو الفوضوي، هو تحويل الساحة السياسية إلى حلبة صراع تسود فيها الفوضى والتنافس بمعايير مختلة ومشبوهة والتكالب على المناصب والمحاصصات، مما يجعل المسرح السياسي مسخٌ مشوهٌ وساحةٌ للصراع الانتهازي والمناكفات، فتغيب فيها الأهداف العليا للدولة وتسود فيها المطالب الشخصية التي تتقزم إلى حد الطموح في (سيارة) فقط لرئيس الحزب.
ثم يبقى القول إن هذه الحالة من الفوضى إذا لم يتم حسمها بقوانين وضوابط وشروط جديدة حاسمة على أسس علمية ومقدرات مالية وكفاءات وخبرات عالية بمواصفات رجال الدولة، ليتم دمج هذه الأحزاب بحيث لا يتجاوز عددها في طول البلاد وعرضها أكثر من (أربعة) أحزاب، فمما لاشك فيه إن تمدد هذه الظاهرة سيشكل أكبر خطر للاستقرار السياسي وعلى نحو يفوق السيولة الأمنية والانزلاق الأمني وجعل الساحة السودانية بؤرة للخلافات وصراع الأجندة الذاتية والمطلبية .
تحليل: أحمد يوسف التاي
الخرطوم (صحيفة الإنتباهة)