الإثنين الأسود
(1 )
وتتواصل أيامنا الحزينة التي يلفها السواد فهاهي مدينة الأبيض الهادئة الوادعة مدينة الرمال التي يبللها المطر تذرف دموع الدم وهي تودع لفيف من فلذات أكبادها من تلاميذ المدارس قتلوا غدراً وغيلة بالرصاص الحي كل ذنبهم أنهم خرجوا متظاهرين احتجاجاً على الغلاء الذي أصبح يقف حاجزاً بينهم وبين التحصيل الأكاديمي فقد أصبحت تعريفة المواصلات وساندوتش الفطور فوق طاقة آبائهم. لقد نزلوا الشارع دفاعاً عن حق أصيل من حقوقهم وهو تلقي التعليم. نسأل الله لهم الفردوس الأعلى مع الصديقين والأنبياء وأن يربط على قلوب آبائهم وأمهاتهم المكلومين والمكلومات. ستكون كارثة أكبر لو مرت أحداث الأبيض مثل غيرها من أحداث بأن تقيد ضد مجهول فالذين أطلقوا النار جهاراً نهاراً شاهدهم الجميع والرصاص الحي يغوص في أجسادهم البضة. مسؤولية والي الولاية مباشرة ومسؤولية المجلس العسكري الحاكم بوضع اليد أوضح.
(2 )
إن أحداث الأبيض توضح انحدار الحياة المدنية في السودان نحو العنف والموت المجاني وتوضح أن الأروا ح السودانية أصبحت قليلة القيمة أو حتى بدونها فإذا عدنا بالذاكرة إلى أيام كنا تلاميذ بذات المرحلة التي كان فيها شهداء الأبيض كنا نخرج في المظاهرات بين الفينة والأخرى ولم نكن أصيلين في تلك المظاهرات بل كنا نخرج إنابة عن أسرنا كما في حالة زيادة أسعار السكر أو زيادة سعر رغيفة الخبز وكانت شرطة مكافحة الشغب تحاصرنا بالعصي والهراوات وعلى أقصى تقدير كانت تقبض على البعض وتحملهم في كوامرها إلى أقسام الشرطة ولا تدخلهم الزنانين بل تنتظر أسرهم أو معلميهم ليأخذوهم أحياناً بكتابة تعهد وأحياناً بدون وكل هذا لا يتجاوز بضع ساعات فلم نسمع في يوم من الأيام بتلميذ بات في الحبس فقارنوا هذا بما يحدث اليوم من رصاص مباشر وعلني لتدركوا ما نحن فيه وما نحن ذاهبون إليه من مصير أسود. هذا الانحدار نحو العنف والموت المجاني لم يتم بين يوم وليلة إنما استغرق زمناً فقد فيه الناس المحاسبة وأدمنوا السكوت على الجناة.
(3 )
أتت أحداث الأبيض وبلادنا تعيش في مرحلة ضبابية يلفها الخوف والفزع من المستقبل القريب فالبلاد بدون حكومة والتفاوض حول الحكومة يمضي ببطء قاتل والرصاص كل يوم يزداد تطايراً والنعوش في حالة ازدياد والمحاسبة غائبة. إن أحداث الأبيض امتداد طبيعي لما قبلها في الشهور الأخيرة التي أعقبت سقوط نظام البشير كأحداث الثامن من رمضان وأحداث التاسع والعشرين منه (فض اعتصام القيادة) ومسيرة 30 يونيو وكنا نتمنى أن تكون أحزان الأبيض خاتمة لأحزان هذه الفترة الباكية ولكن هذا لن يحدث إلا إذا استشعر الموكل إليهم تشكيل الحكومة القادمة خطورة الفراغ السياسي الذي تعيش فيه البلاد فسارعوا بادخالها الفترة الانتقالية حتى يتوقف هذا الموت الزعاف وتتم محاسبة الجناة . إن أحزان الأبيض يجب أن تكون دافعاً للاسراع بإنهاء التفاوض وتشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي . إن أحداث الأبيض ليس فيها كاسب بل الكل خاسر وإنها لن تفيد إلا المتربصين بهذه البلاد وما أكثرهم وأي توقف للتفاوض سوف يخدم أجندة المتربصين. إن أحداث الأبيض لا تخص جهة سياسية معينة بل تخص كل السودان فما من سوداني إلا و روعته فعلى الذين جعلت الأقدار الأمر بيدهم أن يسرعوا بإخراج البلاد من هذه الحالة.
حاطب ليل – د.عبداللطيف البوني
صحيفة السوداني