عبدالحي يوسف يبيّن الفرق بين الدولة في الإسلام والمسيحية
تحدث فضيلة الشيخ د. عبدالحي يوسف في خطبة الجمعة 16 اغسطس الجاري عن الدولة الدينية وبيّن معناها وتاريخها والخلط الكبير عن الناس في إطلاقها .
* الدولة الدينية أو الثيُوقراطية بضم الياء هي التي تعني الحكم الديني، وكلمة ثيوقراطية تتكون من كلمتين مدمجتين في اللغة اليونانية هما ثيو وتعني الدين وقراط وتعني الحكم، وعليه فان الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين هم الذين يعتبرون موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعاليم سماوية.
* هذه الدولة الدينية قامت في أوروبا في العصور الوسطى المظلمة، وقد تسلطت على الناس في عقولهم وضمائرهم وقلوبهم، وأحدثت من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فقتلت من العلماء والمخترعين وأفنت من أصحاب العقول الجم الغفير، لأنها قامت على أساس دين فاسد محرف ليس هو بالدين الذي أنزله الله على عبده ونبيه عيسى صلى الله عليه وسلم.
وقد أوجد هذا التصور للدولة الدينية ردة فعل عنيفة عند مفكري الأمم الغربية وفلاسفتهم جرَّهم إلى اتخاذ موقف مناقض أشد المناقضة، فلم يكفهم أن ينفوا المعاني الباطلة المتعلقة بذلك المصطلح، بل بالغوا وغالوا ونفوا أن يكون للدين أي تدخل أو تعلق بالدولة، ومن ثم استعاضوا عن ذلك بوضع الإنسان في موضع الدين، فأصبح الإنسان هو من يضع القوانين وهو الذي ينظم الأمور من غير أن يتقيد في ذلك بشيء من خارجه، والدولة التي يحل فيها الإنسان محل الله – تعالى الله عما يقولون ويتصورون ويصفون – هي الدولة المدنية في تصورهم
وبيّن فضيلته الفرق بين الدولة في الإسلام والمسيحية :
أ. الدولة الدينية المسيحية: قامت على نظرية التفويض الإلهي؛ بمعنى أن رجال الدين هم المتحدثون باسم الله، وأن كلامهم واجب التنفيذ لأنهم معصومون لا يتطرق إلى كلامهم خطأ ولا عيب، وكأنه وحي من السماء نازل
ب. الدولة الدينية الإسلامية : الدولة الإسلامية ليست كالمسيحية فعلماء الدين في الإسلام ليسوا وسطاء بين العبد وربه، فضلاً عن أن الدين الإسلامي نفسه ليس به رجال كهنوت، كما أن العلماء أو الحكومة في الإسلام ليسوا أوصياء من الله على خلقه، فمن يدَّعي أن الحكم الإسلامي ثيوقراطي يكون قد ظلم الحقيقة، لأن الحاكم المسلم ينتخب من الشعب، وهو يخطئ ويصيب، ويحاسب ويعزل وليس معصوما. ومهمة الحاكم في الإسلام تكاد تكون وظيفة تنفيذية محضة سواء عن طريق التنفيذ الحرفي للنصوص أو التنفيذ الاجتهادي للأمور المرتبطة بالاجتهاد.
ت. الثيوقراطية أو ما يسمى بحكومة رجال الدين ليست من الإسلام ولا علاقة له بها، وطالما حاول أعداء الإسلام والمتقوِّلون عليه أن يصموا حكم المسلمين بمثل هذا الشكل من الحكومات، ويقولون: إنه عفا عليها الزمن لأن أوروبا تركتها بعد الثورة الفرنسية، ونرى بعض مدّعي الإسلام وهم منافقون في الواقع يعارضون حكم الإسلام والدستور الإسلامي بحجة أنه يعني حكم المشايخ أو وزارة الأوقاف، وهم بذلك يفضحون جهلهم بالإسلام وغربتهم عنه أولاً، وثانياً يفضحون مقدار عمالتهم الفكرية حيث يريدون تطبيق المفاهيم اليهودية أو المسيحية على الإسلام. إن الإسلام قد جاء لهدم الحكم الديني الممثل في عصمة رجال الدين، ولكن بعض كتاب المسلمين خلطوا بين هذه الحكومة الدينية كما عرفتها أوروبا في القرون الوسطى حتى الثورة الفرنسية وبين نظام الإسلام. فالحكم في الإسلام ليس حكماً (ثيوقراطياً) لكن جهل أنصاف المتعلمين الذين يقيسون الإسلام بالكنيسة في العصور الوسطى، جعلهم يتوهمون أن الحكم الإسلامي ثيوقراطي ويتناقض هذا بشكل كامل مع المبادئ الإسلامية.
ورد فضيلته على شبهات يطرحها بعض كارهي حكم الإسلام :
أ. أن الدين شيء مقدس، والسياسة شيء مدنس، وما ينبغي خلط المقدس بالمدنس!! والجواب: إن الإسلام دعوة إصلاحية تريد أن تصلح للناس معاشهم ومعادهم؛ فمن الذي يزعم أن دعوة إصلاحية تبتعد عن ميدان الحكم وتزهد في الإفادة منه لمبادئها؟ أما رأينا الثورة الفرنسية التي قامت على مبادئ ثلاثة: الإخاء والحرية والمساواة، هل زهدت في الحكم؟ هل اكتفت في تنفيذ أغراضها بالدعاية والتبشير؟ والثورة الحمراء التي اندلعت في روسيا وقامت على مبادئ ماركس هل عاشوا بأفكارهم بعيداً عن الدولة والحكم؟ إن الحكومة الإسلامية ذات أهداف ومبادئ؛ قال تعالى {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بمهام رئيس الدولة على هذا الأساس الواضح وكذلك خلفاؤه من بعده…. إن حرمان الإسلام من حقه المقرر في الحكم، واعتباره ديناً معزولاً عن الدولة هو جزء من العداوة التقليدية التي تكنها أوروبا للإسلام وأهله، والنزعة الصليبية هي التي تحبط كل محاولة لإحياء التشريعات السماوية التي نص القرآن على ضرورة تطبيقها. فملك إنجلترا يلقب رسمياً بحامي المسيحية، والبند الأول في برنامج حزب المحافظين إقامة حضارة مسيحية، وبعض الأحزاب في أوروبا – في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا – تحمل لقب (الديمقراطي المسيحي) أو (الاشتراكي المسيحي) كما هو الحال في بلجيكا
ب. إن جرائم قد ارتكبها حكام باسم الإسلام مما يدل على عدم صلاحيته للحكم!! والجواب: إن الحضارة الغربية أفرزت الفاشية والنازية والشيوعية والاشتراكية الديمقراطية، والرأسمالية الديمقراطية، وإذا قلنا إن جرائم الفاشية والنازية لا تحتاج إلى إثبات فإن الاشتراكية الديمقراطية مثلاً، هي أكثر من نفذت مذابح في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، وصحيح أن جرائم فرنسا في الجزائر حدثت في ظل جميع أنواع الطيف السياسي الفرنسي، بمعنى أن الجمهوريين والملكيين، الاشتراكيين والرأسماليين الشيوعيين والثوريين الفرنسيين، كلهم شاركوا في مذابح فرنسا في الجزائر، ولكن الوتيرة كانت ترتفع في حالات الحكم الاشتراكي والشيوعي الفرنسي. أما بالنسبة للديمقراطية الرأسمالية، فإنها هي المسؤولة عن إبادة الهنود الحمر بعشرات الملايين، واسترقاق السود بعشرات الملايين، والنهب الرأسمالي للعالم، والاستعمار، وإنشاء دولة إسرائيل ودعمها، رغم كل ظلمها الواضح والمعلن على مرأى ومسمع من العالم لمدة سبعين عاماً حتى الآن، والذي ضرب نغازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية كانت دولة ديمقراطية. وهكذا فإن استخدام مصطلح الدولة الدينية للتخويف من الدولة الإسلامية هو محاولة من الرأسماليين لاستمرار نهب العالم، لا أكثر ولا أقل.
ت. من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته : فيقولون كون الدولة إسلامية أو شرعية أو دينية يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم، إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية، ونحن نقول لهم : أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فأتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين شاهد من الذي ادعى هذه المنزلة من حكامهم؟ ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟ وأمامكم سير الخلفاء حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضا.
ث. ومن الشبهات أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: وهذا مجرد ادعاء عار عن الدليل كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام، تدحض ذلك، أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.
ج. ومن الشبهات : أن يقال أن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم. وهذا أيضا ادعاء لا يعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي، والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها، فهم من اجل ألا يحمل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة كلها بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات، والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم .