عبد اللطيف البوني

التلهُّف للقائد المُلهم

(1)
من أهم إفرازات النظام السَّابق أنّه زاد جُرعة التّسييس وسط الشعب، وذلك لأنّ النظام استخدم الآلة السِّياسيَّة في كل شيءٍ في الاقتصاد بثراء المُقرّبين وإفقار الآخرين في الاجتماع بقانون النظام العام وغيره، وفي الخدمة العامّة بشقّيها المَدني والعسكري بتقديم الولاء عَلَى الكَفَاءة، ففي دولة القانون والانضباط ينصرف مُعظم الناس في مَشاغلهم بعيداً عن السِّياسة.

 

ومع زيادة مُعدّلات التسييس زهد النظام الناس في الأحزاب، لأنّه كان يقوم على حزبٍ، وفي نفس الوقت كَانَت الأحزاب المُقاومة له عَاجِزَةً عن إقناع الشعب بالاصطفاف خلفها.. وَلَعَلّ الدليل على ما ذكرناه هو خُرُوج الملايين في ديسمبر المَجيدة دُون أن تتقدّمها الأحزاب، بَل خَرَجت استجابةً لنداء تجمُّع المهنيين والذي كان ساعتها مجهول القيادة ومجهول البرنامج اللهم إلا بند واحد وهو إسقاط النظام، وهذا يَدُل على جوع وعطش شديدين للقيادة.. وقد عبر التجمُّع بالجماهير مرحلة الثورة، ونحن الآن نستشرف مرحلة الدولة.

 

(2)
استطاعت قِوى الحُرية والتّغيير التي تَوسّطها تجمُّع المهنيين، قيادة الجماهير في الفترة من 11 أبريل إلى 17 أغسطس يوم بداية الفترة الانتقالية، وذلك بفضل مُقاومته لتطلُّعات وأطماع العساكر في الشراكة، فَكَانَ شِعَار (لَم تَسقط بعد) و(تَسقط ثَاني وثَالث)، فالآن (اليوم العلينا دَا) تمّ السُّقوط وبدأت المرحلة الجديدة، وبالضرورة أن يَنصرف تَجَمُّع المِهنيين إلى مَهامه المهنية طَال الزمن أم قصر، وتنصرف الأحزاب إلى بناء قواعدها، وَلَكن جُرعة التسييس العالية لن تَنخفض بذات السُّهولة، لأنّ ما ينطبق على المُؤسّسات لا ينطبق على الأفراد، عليه سيظل العطش للقيادة قائماً، كان يُمكن أن تكون القيادة التي يجري البحث عنها قيادة مُؤسّسية في شكل حزبٍ أو جبهةٍ عريضةٍ ولكننا أبعدنا الانتخابات.
وفِي تَقديري، إنّ تَأجيل الانتخابات لأكثر مِن ثَلاث سَنوات كَانَ (دَقسة) كَبيرة مِن “ق ح ت” لأنّه كَانَ في مقدورها أن تُحوّل ذلك الرصيد الهَائل إلى كَسبٍ حزبي أو جَبهوي، وَلَعَلّ المنجز الكَبير الذي أنجزته “ق ح ت” هو أنّها سَدّت الطريق أمام أيّة قيادة عسكرية في الوقت الحالي، عليه أصبح الطريق مُمَهّـداً لقيادةٍ فرديةٍ.

 

 

(3)
طالما استبعدنا القيادة الجماعية المُؤسّسية لم يَبقَ أمام الجمهور إلا القيادة الفردية (الكاريزمية).. وهنا ظهر الدكتور عبد الله حمدوك دُون أيِّ سعي منه، بل عوامل غير ذاتية هي التي وضعته في الطريق، بيد أنه يمتلك المزايا التي تجعله مُستقطباً لحُب الجماهير، وقد توسّعنا في هذا بعمود الأمس.

 

بهذا يكون حمدوك قَد وَضعنا أمَام مَشروع قيادة مُلهمة (كاريزمية)، وعندما نقول مشروعاً فهذا يعني أنّنا لم نصل بعد، ولَكن تَبقى الأسئلة هَل نَحن في حَاجةٍ لقيادة مُلهمةٍ؟ وما هي فائدتها وأضرارها للوطن؟ وما هي مُعوقاتها؟ سوف نُحاول الإجابة على هذه الأسئلة في الأيام القادمة إن شاء الله.. فأما اليوم قد خصّصناه لإثبات لماذا وكيف أضحت الجماهير في عطشٍ وجوعٍ شديدين لقيادة، وأن السبيل للقيادة الفردية أصبح مُمهّداً وقَد يَكون هذا القائد حمدوك وقد تفوت عليه الفُرصة كما فاتت على الزعيم الأزهري من قبل.

 

حاطب ليل || د.عبداللطيف البوني

 

 

 

السوداني