المحبوب عبدالسلام يكشف عن أسباب عدم توقيعهم على إعلان الحرية والتغيير
حوار مع المحبوب عبدالسلام 1-2
يبدو الأستاذ المحبوب عبد السلام واثقاً من الاتجاه الذي تمضي نحوه الثورة، خاصة وأنه قد انتهى مُبكراً بعد تأمل في التجربة بأن ” الإسلام السياسي قد استنفد اغراضه “، واتجه يبشر بفجر جديد، وأسس مع رفاقه من الشباب الثائر حركة تضامن من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وتوصف بأنها حركة جاءت اتساقاً مع مكتسبات الإنسانية في تنظيم التداول السلمي للسلطة، وتناضل من أجل المساواة بين الأفراد والعدالة بين المجتمعات، وذلك من أجل مجتمع حر مبادر ومن اجل دولة تراعي كرامة مواطنيها، لا سيما الفقراء والضعفاء من هوامش الجغرافيا إلى هوامش المجتمع. ” الجريدة ” استنطقت الأستاذ المحبوب في هذا الوقت المفصلي من تاريخ السودان فخرجت بقراءة عميقة لواقع ومستقبل الحراك السياسي والاجتماعي وكذلك بمراجعات للتجربة السياسية السودانية.
حاوره: حافظ كبير
#لنبدأ أولاً من ثورة ديسمبر كيف تقرأها في سياق الأحداث السياسية السودانية التاريخية وما الذي يميزها ؟
منذ ديسمبر الماضي، قبل انتصار الثورة بأربعة أشهر، كنت اتحدث لمجموعة من الصحفيين في دار صحيفة الانتباهة، وذكرت تقريباً بالنص أن هذه الثورة ستكون موجات، وستأتي موجة غامرة، والموجة الغامرة هذه علامتها المائزة هي أن الثورة تكون في لحظة ما أشبه بالجرس الذي يرن في كل بيت، فيخرج كل أحد، عندئذ تدخل الثورة مرحلة لن ترجع عنها، وهذا ما قصدته بالموجة الغامرة، قلت ذلك لأنني كنت أرى أن هذه الثورة ثورة إنسانية بمعنى أنها تمضي في المجرى الأعمق للتاريخ، التاريخ فيه مجرى ظاهر تظهر فيه القيادات الشعبوية والحركات المتطرفة والزعامات الهوجاء، ولكن في التاريخ أيضاً مجرى عميق ، والآن المجرى المتجه نحو حقوق الانسان، نحو تمكين المرأة، نحو العدالة، نحو الكفاية الاقتصادية، هذا هو المجرى العميق الذي ستحفر الجهود الإنسانية باتجاه أن الناس سيبلغون هذه الغاية، وهذه كانت أحلام تراود الفلاسفة قبل الميلاد ولكن الآن اتضح أن ذلك لم يكن مجرد شطحات من أولئك الفلاسفة، ولكن حس عميق وحدس، وكذلك نبوءة تأتي من نداء الضمير الداخلي الذي يستشرف المستقبل. هذه الثورة تأتي في هذا الاتجاه، وهذا واضح من شعاراتها، حرية سلام وعدالة، أنا قارنت بينها وبين شعارات في أكتوبر وأبريل كانت أقل بكثير، صحيح أن الثورة عندما اتسعت وضمت قطاعات وطالت مدتها، هذا المستوى الرفيع من الشعارات انخفض لمستوى آخر، فهي ثورة إنسانية وثورة باتجاه التاريخ، لكنها كذلك ثورة سودانية، بمعنى أنها لا تشبه الثورات السودانية السابقة، لكنها كذلك لا تشبه ثورات الربيع العربي ولا النهضات الافريقية من حولنا، لذلك كنت أقرأ هذا في المكون الشبابي.
#كيف تميزت عن الثورات السودانية السابقة؟
مثلاً، عندما تنظر في أكتوبر وفي أبريل تجد المجتمع أغلبه في الشارع، كبار، متوسطي الأعمار، صغار، شباب ونساء، ولكن هنا كان المكون الشبابي طاغياً مما يؤكد أنها هي فعلا باتجاه التاريخ، وكان الشباب صامداً جداً وكان مستبسلاً ومثابراً، لم تفتر همته ولم تتراجع، فالثورة كانت بهذا المعنى فيها الأمل بالمستقبل، ولكن هذا لا يعني أن كل هذه القيم الرفيعة ستكون محفوظة وسيكون مؤكد أنها ستمضي في اتجاه التاريخ، قد تحدث انتكاسات أو تحدث ردة، حتى الآن اُختبرت الثورة اختبارات عظيمة وتجاوزتها. الاختبارات المقبلة أكثر تعقيداً لأنها متصلة بالإيجابي. ما مضى كله كان في اتجاه هدم القديم وإزالة العثرات من الطريق وازالة الأفكار الميتة والقاتلة.
#بالرغم من أن التجربة الاستبدادية الطويلة أثرت على العمل السياسي، خاصة الحزبي، ما الذي جعل المكون الشبابي مترابطاً وصامداً إلى هذا الحد؟ هل أدرك الشباب هذا المعنى العميق وتقدم على النخب وقادة الأحزاب؟
أنا كثيراً ما ذكرت أن ابن خلدون في القرن العاشر قال إنه سيكتب هذا الكتاب، كتاب تاريخ الأمم، لأن البشرية كأنما تستأنف من جديد، والانسان كأنما يُبدل من أصله، هذا في القرن العاشر، لكن الآن إذا نظرنا إلى ما كابدت البشرية في القرون الأخيرة، في الثورة الصناعية الأولى، ثم الثورة الصناعية الثانية، ثم ثورة الاتصالات التي نعيش الآن في كنفها، فهذا يجعل العالم كثيفاً ومترابطا، ويجعله يستخدم وسائل متقدمة، لكن هي وسائل تحمل في جانب منها فكرة، هي لا تبدل فقط أسلوب الحياة ” الاستايل ” ولكن تُبدل جوهر الحياة، فلذلك ما رأيناه من هذا الترابط بين هذا الجيل هو يعبر عن هذا التحول في المجرى الإنساني، لذلك أنا قلت أنه يعبر عن المجرى العميق في التاريخ، لكن الشق الآخر من الكلام هو خطير، لأنه لا يمكن أن نتصور أن هنالك نظام ديموقراطي ليس فيه أحزاب، فالأحزاب هي تنظيم للرأي في المجتمع. أنت عندك رأي وأنا عندي رأي، متقاربان، الخلاف فيهم محدود، نستطيع أن نقيم رأي واحد من الرأيين، لأن الخلافات ليست جوهرية، ولذلك يتضام عدد كبير من الناس في حزب حتى لا نُشكل على الشعب إذا أراد أن يختار بين البرامج، أنا أميل إلى أن تكون البرامج محدودة، وواضح أنه كلما تقدمت التجربة كلما أصبحت البرامج المطروحة محدودة، صحيح أنه يوجد في بريطانيا وامريكا عدد كبير من الأحزاب، ليس فقط المحافظين والعمال ولا الجمهوريين والديموقراطيين فقط، لكن في أحزاب كثيرة صغيرة ، لكن البرامج أصبحت تتقارب لدرجة تحدث الناس عن تجاوز عهد الحزبية إلى عهد الديموقراطية الحقيقية، الشعب أصبح فعلاً حاكم، لأن النائب ليس موصول فقط بحزبه، بل موصول بالدائرة الانتخابية ، فالمسؤول على رأس الثانية يمكن لأي عضو مواطناً في دائرتك أن يرسل لك ايميل أو واتساب وأنت تقرأ وتعرف تماماً ما الذي يدور في دائرتك، الدائرة أحياناً فيها آلاف ولازم تكون ملماً بما يحدث بالتفصيل، فالجيل الذي صنع هذا التغيير، أو الذي أبطل الباطل بتعبير الشيخ الترابي، محتاج فعلاً أن تكون هناك رؤى تنظم العمل السياسي في اطار أحزاب، أنا قلت إن الإسلام السياسي استنفد أغراضه، لكن غالب الأحزاب استنفدت أغراضها، ولذلك نحتاج الى تجديد جذري، بمعنى أن أي حزب هنالك مستوى من التجديد الجذري لابد أن يكابده.
#ما الذي تقصده بالأفكار الميتة؟ وهل نتوقع أن تفتح الثورة أفقاً جديداً للممارسة السياسية وتغييراً اجتماعياً كبيراً ؟
أكيد، الذي أقصده بالأفكار الميتة هي الأفكار الموروثة من الماضي، مثلاً العنصرية، القبلية، كل أفكار الدولة والمجتمع قبل الحديث، هذه أفكار ميتة، مثل أن يكون في جسمك عضو ميت، إذا لم تبتره سيسمم باقي الجسم، فنحن محتاجين أن نتخلص من الأفكار الميتة، كذلك هناك أفكار قاتلة، مثل الارتباط القردي، كالمحاكاة العمياء للخارج، والعمالة، والمشاريع الأجنبية، هذه كلها أفكار قاتلة، لابد للثورة أن تتخلص من الأفكار الميتة والقاتلة.
#وهل تتوقع أن يفتح ذلك أفقاً اجتماعياً وسياسياً جديداً ؟
واضح جداً، مثلاً فيما يتعلق بالعنصرية هناك نفور شديد جداً لدى هذا الجيل الراهن من الاتجاهات العنصرية. العنصرية طبعاً عميقة ومتغلغلة في مجتمعنا، وعند بعض الناس هي بديهية، ولكن اذا رأيت شاب في العشرين من عمره تربى في كنف أسرة ترى هذه القيم بديهية، سترى أنه يتمرد على هذه الاسرة في هذه القيم، ويشعر بالاشمئزاز عندما ترد التعبيرات العنصرية التي أصبحت دارجة في كلامنا وفي ثقافتنا. فالتغيير هنا سيمس الأفكار الميتة وسيمس الأفكار القاتلة، لكن كلا الامرين لا يحدث عفواً وضماناً ويقيناً، لابد من مجهود كبير جداً للتخلص من الأفكار المية والقاتلة.
#بالرغم من ما ذكرت ظهرت قيادة الحراك مضطربة بعد اسقاط النظام، هل فشلت في انزال شعاراتها في الواقع؟
الشهادة لله ، هم انجزوا عمل كبير، صحيح كانت هناك أفكار وفي الهام من مشاهد وأفكار كثيرة، لكن في جزء فني تطبيقي عملي يومي، هذا الجزء كان صعب جداً لأنه يتطلب تضحية بالوقت والفداء بالروح، وهؤلاء الشباب الذين انجزوا التغيير لابد أن نحييهم ونرفع لهم القبعات، لأنهم قاموا بعمل مشرف جداً، وقاموا به بكفاءة واقتدار، يمكن بالنسبة لجيلنا، الجيل الذي انتمي إليه، جيل الثمانينات، هذا الجيل مخضرم من ناحية لأنه اكتسب تجارب كبيرة جداً والتقى بشخصيات عظيمة وكان مولع بالسياسة، الناس هسي مولعين بأشياء كثيرة، بالعمل الطوعي، بالعمل الإنساني وبالأدب والأفكار، لكن نحن كنا مولعين بالسياسة، وكنا مكرسين جهداً كبيراً لها، ولذلك اكتسبنا خبرات. بعد ذلك التقينا بشخصيات كبيرة مخضرمة، عندها خبرات وتجارب وأسماء، هذا لم يتوفر للشباب الذين اداروا الثورة، فاضطرب المشهد.
#ما الأسباب المباشرة لهذا الاضطراب؟
من الأسباب التي كنت أرى أنها بداهة، أن تكون للثورة قيادة واضحة، صحيح طبعاً في حجة بأن الثورة تحتاج في الجزء الفني منها إلى تدابير فنية مثل أن تكون القيادة غير ظاهرة مخفية وسرية، ولكن بعد أن زالت الأسباب والمخاطر لابد أن تبرز قيادة واضحة ولذلك أنا كنت منذ البداية أدعوا بشدة إلى هيكلة كيان قوى الحرية والتغيير وإلى أن تظهر فيه سياسة حقيقية، وكنت في مرحلة من المراحل قد اقترحت أسماء معينة، يمكن أن نوكل إليهم قيادة الحراك لأن الاضطراب الذي ظهر مع بداية الثورة في العلاقة مع العسكريين، في التأخير في انجاز المطلوبات وكذا، هذا جعلني مشفق في الأيام الأولى لكن تذكرت أنهم لم يمروا بهذه التجارب ووجدوا أنفسهم أمام مسؤولية لم يتهيأوا لها ولم يكونوا يتوقعونها، فاضطرب المشهد كثيراً في أول الثورة، حتى أوشك اليأس أن يمس القلوب ، فلذلك صيرورة الأشياء نظمت المشهد إلى حد ما، وانجزت الوثيقة الدستورية والوثيقة السياسية طبعاً فيها بعض المسائل، لكن ما تزال مسألة إدارة الحياة كلها ، إدارة المجتمع والسياسة وإدارة الدولة والحكم، كلها ما تزال تحتاج إلى مجهود. أهم شيء هو أن يكون الناس موضوعيين في الاختيار ومنفتحين، هنا في هذا المكان الحرج، أن لا يمارس اقصاء، ولا نحرم مجتمعنا ومستقبلنا وثورتنا من طاقات بحجة أنها كانت بعيدة، أو كانت مخالفة شيئاً ما، أو لها ارتباطات بالقديم، مهما كان مستوى هذه الارتباطات، فنحن محتاجين لقدر من التسامح في المرحلة المقبلة حتى ندير المشهد بكفاءة وبمهنية.
#البعض يحمل قيادة الحرية والتغيير هذا الاضطراب، ويرى أنها لم تكن متفقة على برنامج، ما كان يجمعها هو فقط كره النظام، فلما سقط لم تحسن إدارة المرحلة وأقصت كثير من القوى السياسية، كيف ترى ذلك؟
يقولون أن هذا هو أكبر تجمع في تاريخ السودان لأحزاب ، صحيح من ناحية، لكن هو اعلان أصلاً، إذا قارنته بالتجمع الحزبي والنقابي في انتفاضة 1985م كان أكثر انتظاماً، أما إذا قارنته بالتجمع الوطني الديموقراطي بما انجز من ميثاق اسمرا وما جمع من قيادات سياسية ومدنية وعسكرية معروفة، شخصيات مثل جون قرنق والامام الصادق المهدي والسيد الميرغني كلهم كانوا في مكان واحد ومعهم محمد إبراهيم نقد ، فكان هذا انجاز كبير جداً من الناحية السياسية ، ثم جاء هذا واسمه اعلان، في كتل اجتمعت ليس فقط على كراهية النظام لكن على الحرية والتغيير، هذه شعارات كبيرة ومحتاجة لكثير من التفاصيل، كان ينبغي أنه حتى قبل انتصار الثورة أن يكون شكل هذا التنظيم واضح، لأنه لابد من قيادة للثورة، مجرد ما انتهت مرحلة سقوط النظام، في الفجر المقبل سنواجه بأسئلة كيف نحكم الحاضر والمستقبل، فإذا كان عندنا مرجعية بهذا المستوى كان يمكن أن ننقذ المشهد من الارتباك الذي حدث والكوارث التي تلت والاعتصام وفضه، كان كثير من الناس يرفضون سؤال البديل باعتباره سؤال مثبط وتعجيزي، ويقولون أن الطاقات السودانية جيدة جداً وسيكون هناك بديل، ولكن عندما طلب منهم المجلس العسكري أن يأتوا بمجلس وزراء خلال أسبوع، كان ينبغي أن يبادروا إلى ذلك ويكونوا جاهزين بهذا المستوى، لم يكونوا جاهزين ولم يكونوا متوقعين، وهذا كله شيء يمكن أن نُعذر فيه ولكن إلى حين، خلال أسبوع أو أسبوعين ينبغي أن نرتب المشهد، لكن هنالك أشياء متعلقة بطبيعة الشخصية السودانية والمجتمع وطبيعة التجربة، تجعلنا متخلفين قليلاً عن أن ننجز، هناك دول متقدمة علينا اجتماعياً وفكرياً لكنها اضطربت كذلك عند الانتقال. ما حدث مثلاً بعد الثورة المصرية أو ما حدث بعد الثورة اليمنية وهكذا، لذلك نحن اضطربنا وهذا الاضطراب كلف كثيراً، ونأمل في هذه الصيرورة أن يكون هنالك انتظام سريع.
#هل تم تدارك الاضطراب واستفادت قوى الثورة من الخطأ ؟
كان المطلوب الأول هو السلام، قطعاً هذه القضية على جوهريتها وتأتي بعدها القضايا الأخرى، حتى العدالة والحرية تأتي بعد أن تضع الحرب اوزارها ونضع السلاح ، نجد أن المفاوضات اضطربت في البداية في أديس أبابا، بين الجبهة الثورة وقوى الحرية والتغيير مع إنهم بعض من بعض، وكانوا معهم سنين طويلة في نداء السودان وقوى الاجماع الوطني، وقبلها في التجمع الوطني، فواضح أن تجربتنا السودانية على هذا المستوى الطويل من المعارضة لم تتخلص من أمراض كثيرة، لم نقم بنقد ذاتي، بعض الأحزاب لم تتغير جوهرياً ولم تواكب تطلعات الشباب والجيل الجديد في الشارع، لكن بدى شيئاً فشيئاً يتضح أين الخلل، القاهرة كانت أفضل من أديس، لكن أتوقع أن تكون جوبا سريعاً ما تستوعب قوى الجبهة الثورية في المرحلة المقبلة القريبة.
حوار مع الأستاذ المحبوب عبدالسلام 2_2
في الجزء الثاني من الحوار، يكشف الأستاذ المحبوب عبدالسلام عن أسباب عدم توقيعهم على إعلان الحرية والتغيير، وعن رؤيتهم في حركة تضامن من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية بشأن قضية العلمانية وعلاقة الدين بالدولة، فإلى الجزء الثاني والأخير من الحوار:
حاوره: حافظ كبير
ما موقفكم من إعلان الحرية والتغيير ولماذا لم توقعوا عليه ؟
نحن اطلعنا على إعلان الحرية والتغيير من وقت مبكر في بداية التوقيع عليه وتواصلنا مع قيادة الحراك من الشباب والمهنيين، وكان هناك فكرة أن ندخل باسم الإسلاميين الديموقراطيين، وفي هذه الأثناء بلورنا حركة تضامن من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وكان ينبغي أن نوقع بهذا الاسم، لكن كان هناك تقدير آخر، ذلك أن قوى إعلان الحرية والتغيير تضم مكونات مختلفة، وقد تكون هناك بعض التحفظات والحساسية لوجود التيار الذي كان رموزه تنتمي سابقاً إلى الحركة الإسلامية، وفي هذا المفترق وصلنا إلى حل توفيقي وهو أن نصدر بيان نعلن فيه تأييدنا للإعلان، وكان هذا كافياً جداً في تلك المرحلة، نحن أيدنا إعلان الحرية والتغيير باسم التنسيقية الوطنية للتغيير والبناء، لكن لم نوقع عليه حتى نجنبهم الحرج ونتجنب نحن كذلك الحرج.
هل هناك اتجاه في الحرية والتغيير رافض لتوقيعكم ؟
لا، لم يكن هناك جهة رفضت توقيعنا، ولكن الذين كانوا يفاوضوننا من قوى الحرية والتغيير كانوا يتوقعون أنه إذا أتينا بأسماء، مثل فلان، ستثير حفيظة عناصر أساسية في قوى الحرية والتغيير، وفي تلك المرحلة لا نريد أن ندخل في إشكالات جانبية، ومن الأفضل فقط أن نعلن أننا بعض من الحرية والتغيير وهذا ما فعلناه.
ما هي مكونات التنسيقية الوطنية للبناء والتغيير ؟
جزء من الذين وقعوا معنا في التنسيقية كان بعضهم في الحوار، هناك كتلة من (السائحون) وحركة الإصلاح الآن وبعض الناس كانوا من المؤتمر الوطني لكنهم اتخذوا موقفاً معارضاً منذ فترة، مثل السفير الشفيع محمد أحمد ومحمد حسب الرسول، وهو بذل مجهوداً كبيراً جداً ليقيم تنسيق بين المجموعات الإسلامية وبين الثورة والحراك منذ أوله، هناك أقلية كانت مع المؤتمر الوطني، لكن أغلب الإسلاميين كانوا مع الحراك والثورة بما فيهم عدد كبير من المؤتمر لشعبي.
هل استمر التنسيق والتشاور بينكم وقوى الحرية والتغيير ؟
علاقتنا مع غالب الظاهرين الآن في المشهد قديمة جداً، خاصة بالنسبة لي أنا على المستوى الشخصي، حيث بدأت العلاقة منذ العام 2000 مع المفاصلة، وتوثقت في 2001م بمذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية، وأصبحنا بعضاً من المعارضة، نتبادل الخبرات واللقاءات، وكنت أمثل المؤتمر الشعبي حينها، وكانت صلتي قوية جداً بالحركة الشعبية والحزب الشيوعي والاتحاديين وحزب الأمة، وعملنا ميراثاً قوياً جداً وكبيراً لخمسة عشر عاماً، فيما يتعلق بالعلاقة، وكان ميراثاً مهماً، لأننا في عام 1985م مع الانتفاضة كنا معزولين، لأننا كنا بعضاً من نظام نميري لآخر شهر، وعندما قام التجمع الحزبي النقابي عُزلنا، وكانت إجراءات العزل تمضي للإقصاء والعزل السياسي. قاومنا لأننا كنا حركة فتية وقوية ومنتشرة في كل السودان، قاومنا واستمررنا في الساحة إلى أن بلغنا الانتخابات، لكن ذلك كان بمكابدة شديدة جداً، استمر هذا العزل طيلة العشرية الأولى في الإنقاذ، وهذا شيء غير طبيعي، أن تكون حزب سياسي منعزل عن بقية الساحة السياسية. كان دستور 1998، دستور التوالي السياسي محاولة للتصالح مع الساحة السياسية، ولكن للأسف في هذا الموقف كان هناك انقسام داخل الحركة الإسلامية، وكان هناك كثيرون يرفضون الآخر، وكان غالب قيادات الحركة الإسلامية يخافون أن يشاركهم آخر، فاستمرت هذه العزلة إلى أن جاءت المفاصلة، وبعد المفاصلة بعض الناس رحب بنا وبعض الناس ارتاب من موقفنا وبعض الناس لم يقبل توبتنا، لكن عندما وقعنا مذكرة التفاهم كانت هذه مفاجأة ضخمة، وكانت هذه مرحلة جديدة، استمرت إلى أن بلغنا انتصار الثورة. بعد ذلك نعرف تماماً الأجواء التي تحيط بالتجربة في أولها ومدى التشتت والانشغال، وبالطبيعة السودانية الأشياء تأخذ أكثر مما يجب، لم يستمر التواصل والتنسيق لكنني أحياناً أبادر بالأفكار والنصائح.
أين ذهب هذا الإرث الذي تحدثت عنه بين مكونات الإسلاميين وبين القوى السياسية التي ذكرتها ؟
هذا الإرث بُدد بكثير من عدم الرشد، خاصة في المواقف التي تتالت من المؤتمر الشعبي منذ فترة طويلة، ما كان يحتاج لهذا الموقف الجذري حتى مع بداية الحوار، وكان يمكن أن يستوعب هذا الجهد في مرحلة جديدة.
أنا كنتُ مؤيداً للحوار، لكن بمجرد أن ظهر خطاب الوثبة وبعد رفض الاجتماع التمهيدي في أديس أبابا، أدركت أن حليمة في قديمها، هي لم تغادر قديمها حتى تعود إليه. الإنقاذ أصلاً عندها عقيدة قديمة، وهي إنك إذا اردت أن تكون بعضاً منها لكي تدعمها وتقويها فمرحباً بك، ولكن ليس لتغيرها. وفشلت مجهودات كبيرة جداً مثل اتفاقية السلام الشامل في تغييرها، ثم جاء الحوار وأعطى أملاً، ولكن بعد خطاب الوثبة مباشرة تضائل هذا الأمل إلى أن تبدد.
لماذا لم تستطع الحركة الإسلامية تجديد خطابها ورؤيتها ؟
ذات مرة، أول عام 2018 أجلوا مؤتمر الحركة الإسلامية، قال لي رئيس اللجنة المكلفة بتحديد مستقبل الحركة بأنهم أجلوا المؤتمر لأنه لا بد من أطروحة جديدة، وقال إنه لا يجد معنى في أن يجمع 4 آلاف عضو ليكرروا نفس الكلام الذي كان يدور منذ خمسين عاماً، لذلك لابد من فكرة جديدة وهذا الذي منعهم من تأجيل المؤتمر وليس هناك ضغوط خارجية أو إقليمية أو استجابة لرغبة البشير كما ذكر، وقال أيضاً: ” نحن وحدنا نريد أن نراجع”. وأنا استبشرت بذلك، أن تكون هذه فعلاً محاولة جادة للتغيير، وكنت أعلم أنهم يمكن أن يستشعروا ضرورة التغيير، لكن طاقتهم محدودة عن إدراك جديد ، وكتبت ورقة بعنوان الحركة الإسلامية هل تتجدد. الحركة الإسلامية منذ زمن تميل للعمل، وتعطي الأفكار مساحة ضئيلة أو لا تعطيها، فلذلك عندهم وثائق مهمة لا يعلمونها. هناك أفكار لمؤسس الحركة لم يدركوا أبعادها.
هل من أفق جديد للإسلاميين بعد سقوط النظام والحكومة ؟
للأسف، لا أرى أفقاً جديداً، كل الذي أراه هو هذا الذي وصفته بأنه كان صرحاً من خيال فهوى. صحيح في البداية يمكن أن يحدث اضطراب، لأن الصرح قد انهار، مهما كان خيالاً، ولكن أن نعكف على البقايا أو أن نأخذ بقايا هذا الصرح ونقذف بها المستقبل، هذا لا يجدي، هذا الذي أراه الآن في بعض الأوساط في المؤتمر الوطني والشعبي والحركة الإسلامية، أنهم يأخذون بأحجار قديمة ويحاولون أن يقذفوا المستقبل، الشيء الطبيعي أن يكونوا جزءً من المستقبل، أن يعمدوا إلى تغيير حقيقي، لكن القيادة التي أودعت السجن والتي استنفدت وقتاً طويلاً جداً في قيادة الحزب وأصبحت ثابتة في النظام أو في الحركة الإسلامية، أنا وصفتها في ورقة المقدمات في 2012 بأنها قيادة عاجزة عن ملامسة الواقع ولا زلت عند هذا الرأي .
كثير من الأحزاب تشبه الحركة الإسلامية في أنها محتاجة لتجديد حقيقي، ولكن هذا التجديد يجب أن تتصدى له الأجيال الجديدة، يجب أن تدير فيما بينها حوار، وأن تنفتح على الآخر، تنفتح على العالم وعلى المستقبل وهذا منجز ينبغي أن ينجزه الجيل الشاب.
البعض في التيار الإسلامي يصف مواقفك الأخيرة بأنها رد فعل وزعل من الحركة الإسلامية وقيادتها ؟
طبعاً، حتى في المفاصلة، كثير من الناس يظن أننا طردنا من الحزب ولذلك غضبنا. نحن لم نطرد، ولكن أخذنا موقفاً مستقلاً ومعارضاً للحكم، ودفعنا في ذلك أثمان غالية، وفي أي مرحلة من المراحل التي قضيناها في المعارضة، إذا عدنا سيرحب بنا كما عاد آخرون، هم في المفاصلة كانوا فقط لا يريدون الشيخ الترابي، أما البقية فكان مرحب بهم. أنا كنت وثيق الصلة بالقيادات التي وقفت في جانب الحكومة، ولم أكن أقرب إلى شيخ حسن سياسياً من علي عثمان، كنت ناقداً لكثير من سياساته، لكنني كنت أقرب إليه فكريا. هذا الموقف تكرر، وإذا كنا نرغب في أي مغنم، كان ينبغي أن نتماهى مع الحوار، كما تماهى آخرون، ونحن في اللحظة التي تماهى فيها الشيخ الترابي مع الحوار خرجنا عليه، وأسسنا موقفاً مستقلاً ودفعنا ثمناً في ذلك أيضاً.
أنا لا أؤسس مواقف على ردود الأفعال، كثير من الناس يقول إنني أنا ابن الحركة وأنا تلميذ مدرسة الترابي، وأنا كنت في المؤتمر الوطني وكتبت معظم خطاباته وخطابات رئيسه، ولكن أنا تخرجت من هذه التجربة، وخرجت بخلاصات عبرت عنها مقالاً وقولاً وكتابة
أتمنى أن يأتي شخص بورقة المقدمات التي قدمتها للترابي في 2012م ويناقشها ليرى أنني أسستُ موقفي على أفكار أم لا ؟ أو يأتي بورقة الحركة الإسلامية هل تتجدد ويناقشها، ولكن للأسف أنا أندهش إذا كان شخص يعيش وقته كله في وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يقول أن راوياً روى له حديثاً عن المحبوب، بدلاً عن أن يقرأ أو يشاهد الفيديو، هذا عزوف شديد عن النقاش الجاد والحقيقي، أنا أصلاً لا أهتم كثيراً بالمكاسب المادية ولا بالأشخاص، أهتم بالأفكار.
يبدو للكثيرين أن موقفكم الفكري في حركة تضامن غير واضح من العلمانية، وكذلك تعبيرك عن تمايز الدين عن الدولة ؟
أنا ذكرت هذا الأمر في حلقة تلفزيونية، العلمانية كلمة معقدة ومبهمة إلى حد كبير، أنا درست في فرنسا وأعرف بالضبط ماذا تعني كلمة علمانية، كيف خرجت في محيطها الأصلي وكيف تطورت وظهرت علمانيات. في الثقافة الأوربية يمكن أن نفهم كلمة فصل الدين عن الدولة، لأن البابا كان يريد أن يكون امبراطوراً. الكنيسة كانت تريد أن تحتكر السياسة، فكانوا هنالك أمراً واحداً، كانتا رتقاً ففتقناهما، ففصلناهما. لكن في الثقافة العربية الإسلامية الافريقية لم يكن هذا الفصل موجود، ولم تكن هذه الصيرورة والقصة الثقافية موجودة، ولابد من تفكير آخر في مسألة العلمانية. ذكرتُ ذلك لأن من مبادئ الدولة الحديثة المساواة أمام القانون، ومن مبادئها كذلك أنها تقبل التعدد وتقبل حقوق الإنسان كلها، مهما كان التعبير ولو كان كفراً، فهذا كله يقتضي تمييزاً. إلى أي مدى أنت يمكن أن تمارس دينك وإلى أي مدى يمكن للآخر أن يمارس دينه، أعتقد في لحظتنا الراهنة الأمر متعلق بالنيات أكثر مما هو متعلق بالفلسفة وبالممارسة، لأن كثيراً من المفكرين الإسلاميين لا يرون أي تعارض بين الديموقراطية والإسلام، ولذلك هم يقبلونها كمنجز إنساني انتهت إليه البشرية في حل الإشكال السياسي، نحن في حركة تضامن من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، نتبنى الديموقراطية باعتبارها المنجز الإنساني الذي يحل المشكل السياسي، والتنمية الاجتماعية باعتبارها العدالة التي تصعد، كتبنا في الميثاق من الكفاف إلى الكفاية، فهذان شعاران أصبحا غاية الإنسان المعاصر، أن تكون هناك ديموقراطية راسخة، ترسخها تنمية مستدامة كذلك، وبالتالي فإن التنمية هذه ليست فقط في الاقتصاد المادي لكن تنمية حتى للإنسان.
ماذا عن مصادر التشريع؟ خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الجدل الذي أثاره مناصرو الشريعة ومطالبتهم بأن تكون مصدر التشريع في الوثيقة الدستورية ؟
هو هذا الذي يدفعني أن أقول بأن هناك تجديداً لازماً وضرورياً فيما يتعلق بكلمة الشريعة والقانون ومصادر التشريع. هذا البند دخل في أوائل الأربعينيات إلى بعض دساتير الدول العربية، ودخل في شكل عبارات فقط لا يوجد لها أي تجلي في الواقع، مثل العهود الإسلامية المتأخرة، التي كانت تسمي شخصاً خليفة، لتحفظ القداسة الدينية للمنصب، ثم يكون هنالك سلطان. العهد الأخير في العباسي، البويهي كان سلطاناً متصرفاً، وكان الخليفة موجود كرمز لا يؤدي أي دور. ولكي نستدرك هذا الأمر نحتاج لعمل كبير جداً. مثلاً دائماً أشير إلى وثيقة ميثاق السودان التي كان من الواضح أنها أسست الدولة على المواطنة، فهل فكرة المواطنة هذه يمكن أن تُقبل في إطار الشريعة التقليدية ؟ قطعاً لا، فلذلك هناك منجز فيما يتعلق بالأحكام وبالتشريع، وبكلمة الشريعة والحدود، هذا المنجز متعلق بتطور هائل الآن في المناهج، مناهج العلوم الإنسانية، لا سيما الألسنية، ومتعلق كذلك بالتطور الذي لحق بالبشرية، الذي أشرنا إليه، قلنا أن البشرية تدخل طوراً جديداً ، هذا المنجز عندنا لم يكتمل، أو لم تبدأ فيه بدايات حقيقية، قضايا الفلسفة المعاصرة لم نُدخِل فيها كلمة، منذ أن قدّم محمد إقبال كتابه تجديد الفكر الديني وقال فيه أفكار بالغة الخطورة، ولكن كذلك لم تناقش، فهناك عمل لم ينجز. الذي يريد أن يتصدى للحركة الإسلامية أو لعمل في السياسة له سمة إسلامية، لابد أن يكون له مجهود فيما يتعلق بتجديد الفكر الديني.
برأيك ماهي التحديات التي تواجه حكومة الدكتور حمدوك وكيف ترى مسيرتها ؟
بالطبع تواجه حكومة الدكتور عبد الله حمدوك التزامات اليومي، الوقود والقمح والدواء، ثم العاجل، السلام والمعاش، ثم المدى المتوسط، العدالة الانتقالية وجبر الضرر، ثم إلى ختام المرحلة الانتقالية، الدستور الدائم، فلو اختارت قوى إعلان الحرية والتغيير فترة انتقالية لمدة ستة أشهر، كنا سنضع هذا العبء على كتف حكومة منتخبة، وهذا أمر طبيعي، لأنها عندئذٍ ستكون فترة تأسيسية وليس انتقالية، وكان سيكون هنالك مجلس تأسيسي أوسع مما كنا نعهد في تجاربنا الماضية من الجمعية التأسيسية، لكن ما دام الرأي قد استقر على ثلاثة أعوام، وصرنا بين فترة تأسيسية وفترة انتقالية، كمن وقع بين الكراسي، كان المتوقع أن توحد قوى الثورة طاقتها في قيادة واضحة، ويكون لإعلان الحرية والتغيير هيكل واضح يقف صفاً يدعم حكومة التحديات الكبيرة، يدعم المسيرة ويدافع عنها، بدلاً عن ما كابدنا بعد انتفاضة أبريل ١٩٨٥ أن قوى الثورة تضعف حكومة الثورة كما تكرر في موكب القضاء والعدالة. لكن كذلك تتمتع حكومة الدكتور حمدوك بإشعاع الثورة وإلهامها الذي يحشد خلفها دعماً محلياً وعالمياً، ومن كل مكان، وهنالك مد واسع يريد لها أن تنجح، بين تحديات جسام وآمال عراض تحتاج المرحلة المقبلة لعمل دؤوب يركز علي الأفكار لا الأشخاص، ويتجاوز العثرات بمراجعات متسارعة وينصب سريعاً ليستأنف العمل، فإذا فرغت فانصب.
أخيراً، كيف تقرأ المستقبل في ضوء الراهن ؟
نحتاج لإعلاء الأمل، لأن اليأس يصيب القلوب من قريب إذا رأت أن طموحها بعد الانتصار والتضحيات الكبيرة يتعثر، كذلك التجارب من حولنا ربما تدفعنا للقنوط، لكن إذا غذينا العزم الذي شاهدناه إبان الثورة بالأفكار التي تضمن أن تكون أهداف الثورة مستدامة، وليست عابرة وغالبة، مهما كانت التحديات، فإن الغالبية الشابة من قوى الثورة، التي تمثل احتياط الأمل، كفيلة برسم مستقبل مشرق لهذه البلاد الغنية بثقافتها قبل مواردها، خاصة إذا أحسن الكبار قراءة العِبر في تاريخنا والاستفادة من أخطاء من حولنا.