ضياء الدين بلال: تونس (الكلام ليك)!
-1- لا أعرف إلى أيِّ مدى تابع السودانيون مجريات الانتخابات التونسية.
ما حدث هناك، في أرض أبوالقاسم الشابي، يعُطي مُؤشِّراتٍ وعبراً ودروساً تستحقُّ النظر إليها بعين التأمل وأذن الانتباه.
أسوأ ما فينا، عدم مقدرتنا على الاستفادة من تجارب الآخرين، بل ما هو أشدُّ مضاضةً عجزنا عن التعلُّم من أخطائنا.
لذا تجاربنا مُكرَّرة وأخطاؤنا مُعادة وتاريخنا دائري، نُلدغ من الجحر الواحد أكثر من مرتين، ونشتري المياه من حواري السُّقاة، ونبيع الدجاج مقابل الريش:
الصور نفس المشاهد
الشوارع
والبيوت الأماكن والمقاعد
والزمان ثابت مكانو
والرقم اللسة واحد
-2-
تابع العالم بقلقٍ واهتمامٍ، الانتخابات التونسية. تونس التجربة الوحيدة من تجارب الربيع العربي التي نجت من الوقوع في مُستنقع الفشل والفوضى.
ربما مردُّ ذلك أن ثورة التغيير التونسية، تمَّت بسلمية كاملة، فلم يخالطها عنفٌ ولا دخان تدخُّلات أجنبية.
منذ احتراق البوعزيزي ذات نهار، وهروب بن علي في المساء، وصرخة المواطن التونسي أحمد الحفناوي في فجر الخلاص: (هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية)؛ ورغم طول عهد التوانسة بالشمولية والدكتاتورية، من عهد الحبيب بورقيبة إلى زين العابدين بن علي؛ أظهر التونسيُّون مستوىً مُتقدِّماً من الوعي السياسي والولاء الوطني.
?
كثيرون يربطون بين مستوى الوعي السياسي وجودة التعليم في مستوياته الثلاثة؛ إذ تُعتبر تونس حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2017، من الدول ذات الجودة التعليمية العالية.
سلمية التغيير ومستوى الوعي السياسي والولاء الوطني، وضعت تونس الثورة في مقامٍ رفيع، تقاصرت عن بلوغه دولُ الربيع العربي بين فوضى وضياع.
انتهى الدرس…
الشَّعب صاحب الكلمة العليا، يمنع ويمنح، وصناديق الاقتراع وحدها لا غيرها مصدر العقاب والثواب.
-4-
عقب الثورة التونسية اشتدَّ الصراع بين العلمانيين والإسلاميين حول قضايا جدلية أيدولوجية غير مُنتجة ولا مُثمرة.
أهملوا الاقتصاد وتناسوا قضايا المواطنين من معاش وخدمات، ضاق الحال وصعب العيش الكريم، وتدهورت الخدمات، حتى تعالت بعض الأصوات تُنادي بعودة بن علي!
الإيمان بالديمقراطية والثقة في صناديق الاقتراع، وفَّرا زاداً من الصبر على سوء الأوضاع إلى بلوغ ميقات الانتخابات.
تساقطَتْ أحزابُ النادي السياسي القديم بالتصويت العقابي، وجاءت النتائج النهائيَّة لتعكس حالةً من الرفض الشعبي للطبقة السياسية المتعاقبة على المقاعد.
صعدت من المنطقة (المُظلِمة) في الملعب السياسي، إلى دائرة الضوء أسماء جديدة.
قيس سعيد القانوني الأكاديمي، صارم القسمات، قليل الابتسام، ابن الطبقة الوسطى، صاحب السيارة القديمة والمكتب المتواضع والحذاء الأنيق.
نبيل القروي، رجل الأعمال والإعلام الخارج من السِّجن، والموسوم باتهامات الفساد، الممدودة يداه بالعطايا والتبرعات للفقراء والمساكين وأهل الحاجة، ابتغاء كسب الولاء.
-5-
بكُلِّ تواضعٍ، لا يخلو من المكر البراغماتي، تراجعت أقدام حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي إلى الوراء، واختارت الانحياز إلى قيس سعيد صاحب التوجُّهات المُحافِظة بعض الشيء.
مُتحدِّثٌ باسم النهضة قال: (تلقّينا بكُلِّ اهتمامٍ رسائل الشعب التونسي على ضوء هزيمة مُرشَّحنا، ونعد بالقيام بالتقييم الذاتي واستخلاص الدروس والعبر من نتائج الانتخابات).
أكبر مُتغيِّر في الانتخابات التونسية الأخيرة، صعود النفوذ الانتخابي لشباب وسائل التواصل الاجتماعي، من سجَّلوا انحيازهم الكاسح لقيس سعيد، وتركوا لنبيل القروي كبار السن!
-6-
ما حدث في تونس اليوم، تكرَّر في زمن مضى مرَّتين في انتخابات جامعة الخرطوم، مختبر الديمقراطية الأبرز.
حينما اشتدَّ الصراع في أواخر سبعينيات القرن الماضي بين الإسلاميين والشيوعيين، كان خيار عددٍ كبيرٍ من الطلاب التصويت لصالح مؤتمر المستقلين.
تكرَّر ذات الاستقطاب القديم في أوائل التسعينيات بين (الشيوعيين والإسلاميين)، فاختار الطلاب (محايدون، نعم)!
ما حدث في تونس الآن، وما تكرَّر في جامعة الخرطوم أمس، ربما يكون هو الاحتمال الأقرب في الانتخابات السودانية القادمة ما بعد الفترة الانتقالية.
من غير المُستبعَد أن تكون القوى الشبابية المُتفاعلة في وسائل التواصل الاجتماعي ما بين (فيسبوك) و(تويتر) ومجموعات (واتساب)؛ هي القُوَّة الحاسمة والكاسحة في الانتخابات القادمة.
- أخيراً –
طبعاً كُلُّ ذلك واردٌ ومُحتَملٌ بنسبٍ تقلُّ أو تزيد، إذا خرجت حكومة حمدوك سالمة من المطبَّات الاقتصادية، وآمنة من المؤامرات الداخلية والخارجية، ومعافاةً من التنازع الداخلي وذهاب الريح!
ضياء الدين بلال