تحقيقات وتقارير

القطية: تراث سوداني قديم يقاوم الحداثة

تتربع  القطية على عرش العمارة في أرياف وقرى السودان المختلفة بمنظرها المخروطي المهيب، وتعتبر من أهم رموز العمارة السودانية القديمة التي ما زالت تقاوم زحف الحداثة، بل تضفي إليها من سماتها الجمالية المتجذرة في البيئة السودانية لتمنحها خصوصيتها. وهناك ولايات دون غيرها اشتهرت بتشييد القطاطي بالتركيز على مناطق القضارف، جنوب النيل الأزرق، كردفإن ودار فور.

 في هذا السياق وحتى نقف عن قرب من هذا الفن المعماري الفريد،  كان لـ(سونا) جولة بتلك المناطق، البداية كانت من ولاية دارفور ومحدثنا الاستاذ محمد أحمد منصور الشائب الباحث في التراث الدارفوري والسوداني الذي بدأ حديثه قائلا: “القطية عبارة عن غرفة فى شكل هرمى فى النصف العلوى ودائرى فى النصف السفلى على شكل البرميل”، السقف المخروطي الذي يستند على الكاجة يستخدم فيها المرق أو الرصاص بأطوال ثلاثة الى أربعة أمتار أما الكاجة فتستند على الشعب الشعبة بطول 2 متر وتأخذ علامة النصر (الشكل 7) حتى تثبت عليها الكاجة وهو من فروع الشجر بسُمك 10 سم، تبنى القطية من المواد المحلية في البداية يتم عمل قاعدة القطية فى شكل دائري من (المطارق) هي عبارة عن فروع الاشجار تربط المطارق بحبال من لحاء الشجر او الزعف و تسمى هذه الحلقة الدائرية (بالكاجة) و هي بمثابة الاساس الذي تثبيت عليه الاعمدة الاربعة و من ثم تدعم هذه الاعمدة بعدد من (المروق) حسب مساحة القطية وبذلك تأخذ القطية الشكل الهرمي أو شكل القبة، و من ثم ترفع القطية على الشعب ولا بد من وجود راكوبة أمامها للمقيل ولمة الاهل والجيران.

300579

ويختلف شكل القطية في دارفور من منطقة لاخرى ، ففي منطقة جبل مره يكون السقف من القش والمحيط من الحجر و يبنى بطريقة هندسية معينه بحيث يحتفظ بالبرودة صيفا والدفء شتاء، اما مناطق السهول والوديان تبنى كلها من القش في شكل مخروطي المحيط من سيقان الدخن المعروفة بالقوة والمتانة حيث ترص بطريقة هندسية في شكل نسيج من الحبال واللحاء وهناك نوع يكون السقف من نبات المحريب المتوفر في تلك المناطق الغرض منه الفائدة الصحية والرائحة الطيبة التي تنبعث اثناء نزول المطر،  كما له دور في الاحتفاظ بالرطوبة وتكيف الجو.

   وهناك نوع آخر وهو مايعرف (ضهر الثور) وهو عادة ما يسكنه ميسوري الحال والعمد والشراتي ويتراوح قطره بين أربعة الى سته أمتار يبنى بطريقة هندسية بواسطة متخصصين ويتم ربط المحيط بالجزء الاعلى بما يشبه (البيم) وهي اعواد من السيسبان والبوص ويربط بعروق العرديب والمحريب للمتانة والرائحة الجميلة ودائما يتم استقبال الضيوف فيه لما يمتاز به من الجو اللطيف نسبة  للمواد المستعملة في بناءه اضافة  مساحته الواسعة.

بينما القطية العادية لا يتجاوز قطرها ثلاثة أمتار الى مترين، بالنسبة لضهر الثور المحيط يبنى من الطين ويطلق عليه اسم (الدردر)، و يختلف وضع الباب من منطقة لاخرى حسب اتجاه الشمس، في المناطق الغربية يكون الباب في الناحية الشرقية والعكس تماما لارتباطه بعنصر الشروق والغروب ويصنع الباب غالبا من الصفيح أو الخشب أو القصب المقوى ويقال له (السدادة).

 و يقول الاستاذ منصور ان القطية في دارفور تعتبر من أعظم  الفنون المتوارثة، وما زالت موجودة كجزء من التراث، رغم البنيان الحديث، وذلك اضافة الى خصائصها المعروفة، للقطية ميزات عديدة كالراحة النفسية والطمانينة التي يتمتع بها ساكنيها، واهم مقومات تشييدها التدرج والمتانة والتهوية، بحيث تستطيع الصمود امام عوامل الطبيعة لاكثر من ثلاثين عاما فقط يحتاج المحيط ونهاية الشكل المخروطي للتجديد بين فترة واخرى (تحكيم الربط وزيادة القش) واي تطور للقطية وتغيير المواد الطبيعة بمواد صناعية (اسمنت وخرسانة) كما فعل الانجليز في مباني السكة حديد يفقد القطية خواصها ويمكن ان تكون دافئة شتاء اما الصيف فتكون ساخنة جدا الا ان يستعان بالتكيف والمراوح.

 القطاطي يمكن ان تشكل بيتا متكاملا  ومبنى فاخرا في تطور للقطية، كما هو موجود في متحف السلطان علي دينار بمدينه الفاشر.

    أما الكرنك اي ما يشبه الصالون ويلحق به الدُردُر لاستقبال الضيوف ملحقة به القطية كغرفة للنوم ومن خلفها (التُكل) لإعداد الطعام.

ما منطقة  كردفان كان الحديث للباحث في تراث المنطقة المهندس حسن دقوق ازرق الذي قال: يختلف شكل القطية وحجمها بحسب الغرض المستهدف من تشييدها وحجم المواد المجهزة، ومنها المستديرة الحجم وكذلك المربعة، ويمكن بناء جميع أجزائها من القش.

فى السودان وحسب المناخ تنتشر القطية او ما يعرف جمعا في السودان (بالقطاطي) في قرى ومدن  كردفان، وما يميز القطية هنا المتانة والجودة فى الصناعة واستخدام التلوين للزخرفة وقد اشتهر فنيون وعمال مهرة تخصصوا في تشييدها حسب الحجم والمساحة، كما يتم تشييدها عبر( النفير) وهو تجمع شباب المنطقة خاصة قبل فترة الخريف، حيث تشيد القطاطي الجديدة وترمم القطاطي القديمة، وذلك باستخدام المواد الطبيعية المتاحة، ولذا تعتبر صحية وصديقة للبئية وباردة في الصيف ودافئة شتاء ولا تتاثر بسخانة الجو من الخارج، الا ان حركة العمران قللت من وجودها في المدن الكبيرة، ولكن هناك من ما زال محتفظ بها حيث يقوم بتشييدها ملحقا بالمنزل الحديث وعلى أسطح العمارات، حتى في العاصمة وذلك لاجل المقيل والتهوية والجو الجميل وقضاء أوقات ممتعة وشرب القهوة خاصة لكبار السن كمنظر جميل وارتباط بالارث القديم والحنين للقرية.

وهذا ما دعا اصحاب المطاعم السياحية في المدن والاستراحات الخلوية للمسافرين الى تشييدها في شكل قطاطي جذبا للزبائن و السياح بشكلها المخروطي الجميل الذي يعتبر من اجمل الاشكال الهندسية على الاطلاق، وايضا مما دعا  الانجليز اثناء حكمهم للسودان الى تشييد منازل السكة حديد وبعض المدارس والداخليات في شكل قطاطي من مواد بناء صناعية وذلك تعبيرا عن اعجابهم بهذا الفن الفريد والتقرب من الاهالي وكسب ودهم ومحبتهم.

 يواصل الباحث حسن دقوق ازرق،  ما زالت القطية  تحتفظ بمكانتها في القرى ومناطق الانتاج لتوفر مواد البناء،  وعادة يبدأ المنزل بتشييد قطية واحدة عند الزواج وتختلف قطيه الزوجية عن القطية العادية حيث تضاف اليها الالوان الزاهية وحديثا أصبحت تتزين باشكال وزخارف هندسية، الى جانب القطية تشيد ما تعرف (بالراكوبة) وهي عبارة عن اعمدة من الخشب او ما يسمى بالشعب وتوضع عليها البروش والجولات الفارغة، ويزيد عدد القطاطي بالمنزل بعد انجاب الاطفال ليصل الى أكثر من خمس أو ست قطاطي بالمنزل تقسم كالآتي: قطية للاطفال، للضيوف، لحفظ الاغراض، للبهائم الصغيرة و إعداد الطعام. يقول المهندس ازرق هناك عادة كردفانية عندما تتزوج البنت الكبرى تطلب الام من العريس ان يقوم بتشييد قطية الزوجية داخل منزل والدها ليقيم بها مع عروسته الى أن يرحل بها الى أهله وبعدها تضاف الى المنزل.

 (سونا)  في جولتها التقت ايضا بالاستاذ علي مختار عمر الباحث في مجال التراث بولاية النيل الازرق الذي تحدث قائلا: تعتبر (القطية) إحدى المكونات الرمزية لتراث النيل الازرق وتجسد جملة من المعاني والقيم وتمثل احدى المناظر الطبيعية المستواحاة من الحضارة رغم تطور المباني ظلت (القطية) محتفظة بمكانتها في وجدان الشعب السوداني كافة وانسان النيل الازرق ان القطية تمثل احدى الاشكال السكانية التي يسكنها انسان النيل الازرق وتشكل منظومة تتناسب مع الطبيعة والاوضاع الاقتصادية الموجودة في النيل الازرق لفوائدها المتعددة منها الحماية من الشمس صيفاً وتكون باردة نسبا لمكوناتها، وفي فصل الخريف تحمي من الامطار لانها تنزل مشلوبة في الشكل المخروطي لما يميز  النيل الازرق بمعدلات كبيرة من الامطار من شهر ابريل الي اكتوبر.

القطية تبنى في شكل جماعي او ما يعرف في تراث النيل  الازرق بالنفير فيدعو صاحب القطية الاصحاب والاقارب بعد توفير مواد البناء و يقومون ببناء القطية والنساء يحضرن الطعام ومن ثم يصحبها الغناء والرقص وهذا ما يدعم العلاقات واواصر القربة بين انسان الولاية، و القطية من الناحية الاقتصادية هي الانسب لقلة تكاليف بنائها و لتوفر موادها لدى انسان النيل الازرق ومكوناتها (سيقان الاشجار – القنا – الحبل – والقش) وان اكثر المناطق استخداماً للقطية القرى واكثرها جمالاً في منطقة الرصيرص.

 وقد استفاد الإنجليز من هذه الميزة  بتشيد قطاطي من الأسمنت في محطات القطار. و في القضارف كان الحديث عن القطية للاستاذ تاج السر محمد احمد، أحد أعيان المدينة والولاية فقال: القطية تعتبر إرثا قديما لكافة أهل السودان  وهي والراكوبة من أول المنازل التي سكنها عموم أهل السودان شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وكانت تتكون من جزوع الأشجار وتبنى على مرحلتين على شكل دائري والجزء الاسفل يتكون من ما يسمى (الشعب) ويدفن أسفله في الارض للتثبيت ويحاط بسياج من فروع الأشجار أما الجزء الاعلى يسمى (البورة) ويعمل في شكل مخروط من خشب الأشجار لتلتقي الفروع أعلى المبنى ثم يحاط بفروع الاشجار ويبنى هذا الجزء بنبات يسمى الحلفا او القصب حسب البيئة ويرفع على ما تم بناءه على الأرض ويبنى الجزء الأسفل بالحلفا أو القصب وتطورت القطية بمرور الزمن ليكون الجزء الأسفل من الجالوص ثم الطوب ورقم انها تعتبر تراثا الا انها  تضاءلت نسبيا بسبب التوسع في عددية السكان وتكوين المدن ولكن ما زالت العديد من مدن وارياف غرب وشرق وجنوب السودان تنعم بالسكن في القطية لما  لها من راحة نفسية واعتدال للحرارة وأصبحت القطية تنعم بتركيب المكيفات والإضاءة والتجميل من الداخل والخارج و يميل البعض إلى بناء قاعدتها التي ترتفع نحو متر وبضعة عشرة سنتيمترات من الطوب الأحمر أو اللبن، وتستخدم لأغراض السكن والتخزين أو ممارسة أعمال الطبخ وغيرها من الحاجات المنزلية. فقد اتخذ سكان القضارف (القطاطي) بيوتا منذ زمن بعيد؛ فهي قد أثبتت قدرة عجيبة على تحدي الظروف الطبيعية في كثير من المناطق.

 و تعد القطية معلما بارزا، تتشارك فيه مع السمسم للدلالة على  تراث منطقة القضارف، وقد جعلت التربة الرخوة التي تميز ارض القضارف الأنسب للبناء.

  أما عن البعد الجمالي للقطية كفن سوداني أصيل ووجودها في لوحات الفنانين التشكليين  فقد كان لنا لقاء مع الفنان التشكيلي العالمي بكري الفل الذي تحدث قائلا: القطية هي تراث سوداني بحت يتماشى مع طبيعة الارض والمناخ في السودان ونحن كشعب ما زال يحتفظ بتراثه الاصيل نرى ان شكل القطية الهرمي مأخوذ من التاريخ القديم (الممالك النوبية)، القطية من ناحية الشكل الهرمي الهندسي تستمد جمالها الذي يتماشى مع انسياب الهواء بمروره خلال فتحات القش الجميل المرصوص بطريقة فنية قمة في الابداع والجمال، وهو قش من نوع دهني خاص حيث لا يستقر الماء على سطحه الاملس الناعم، فهي باردة صيفا ودافئة شتاء بشكلها الدائري المدبب الذي يعتبر من أجمل الاشكال الهندسية الهرمية لان الاشكال ذات الزوايا دائما تكون حادة ومرهقة للنظر اما الشكل المدبب الذي يتم تزيينه ببعض الاشكال كالعلب يكون مريحا للنظر.

 ومن الجماليات ايضا الطين الذي يتماشى مع طبيعة السودان ويتماشى مع الخضرة والجمال والجبال ولون القش مع الارض وبعد تجميلها لتتماشى مع الشكل المكمل للجمال من وحي الطبيعة والارض السودانية، اضافة الى ذلك فهي تراث اثري ثقافي قديم يتماشى مع الطبيعة السودانية، باعتباره افضل من اي بناء من المواد الصناعية فهو اقل تكلفة ( الطين الطوب والقش)  ومن وحي الطبيعة كما هو صحي وصديق للبيئة.

 و يقول الفنان بكري الفل عن وجود القطية في لوحات الرسامين، القطية فن فلكلوري وارث حقيقي يوضح طبيعة المعمار السوداني فهي موجودة في وجدان الانسان السوداني،  حيث “إننا منذ الطفولة والمراحل الدراسية الاولى في حصة الرسم عندما تمسك بالقلم اول شئ ترسمه هو القطية حتى سكان المناطق التي لا توجد بها قطاطي، كشيء في فطرة الانسان السوداني”، فهي  من أجمل فنون  المعمار في التراث السوداني وان  المواد المستعملة في بنائها (الطين والجالوص القش) هي التي يتماشى مع طقس السودان الحار فهو الإرث الذي يتماشى مع الطبيعة السودانية صحيا وجماليا، يكمل للطبيعة السودانية ولا يخصم منها كباقي المباني الخرسانية والاسمنتية، دائما اللوحة لا تكتمل اذا كان هناك جزء حاد غير الخضرة والزرع الا ان القُطية يمكن ان تحتفي مع الاشجار وعندما تنظر اليها من على البعد تظهر كشجرة يابسة فهي ارث جميل يتماشى مع جماليات الطبيعة.

تقرير رقية الشفيع

 الخرطوم 22-11-2019م (سونا)