مصانع السودان في خطر
في كلّ مرّة تقع حادثة، يستعيد الناس كوارث سابقة ذات صلة. وهذا ما حدث في السودان أخيراً، عقب الحريق الذي أتى على مصنع وعلى عدد من العاملين فيه.
بعد مقتل وإصابة عشرات من العمّال في حريق شبّ في مصنع للسيراميك (الخزف) بالعاصمة السودانية الخرطوم، قبل عشرة أيام، يُطرح السؤال مجدداً عن القصور في إجراءات السلامة في المنشآت السودانية وسط خشية كبيرة من تجدد مثل تلك الحوادث القاتلة في أنحاء مختلفة من البلاد.
وكانت الفاجعة قد وقعت يوم الثلاثاء في الثالث من ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري في منطقة كوبر، شمالي العاصمة، نتيجة انفجار ناقلة غاز كانت تفرّغ حمولتها في صهاريج أرضية، وقد أدّى الانفجار إلى حدوث حريق هائل في مصنع سيلا للسراميك. ولم تنجح جهود الدفاع المدني بالتقليل من الخسائر البشرية والمادية، فلقي 23 شخصاً مصرعهم بينما أصيب 130 آخرون منهم عدد من الجنسية الهندية وأربعة من الجنسية المصرية والبقية من السودانيين، علماً أنّ جثث بعضهم تفحّمت فيما دُمّر المصنع بالكامل بالإضافة إلى عدد من سيارات الموظفين الخاصة وممتلكات أخرى.
وأعادت الحادثة الأخيرة إلى الأذهان أخرى مشابهة وقعت قبل أربعة أعوام، عندما لقي 19 شخصاً مصرعهم في انفجار ناقلة غاز في نفق جامعة الخرطوم، وأخرى أقلّ فداحة في الأعوام الأخيرة. وفي السياق، أصدر مجلس الوزراء السوداني على الأثر بياناً رجّح فيه وقوع الحادثة بسبب عدم توفّر وسائل وأدوات السلامة الضرورية في المصنع، بالإضافة إلى التخزين العشوائي لمواد سريعة الاشتعال، الأمر الذي ساهم في تمدّد الحريق وتدمير المصنع بالكامل. وأعلن المجلس تشكيل لجنة تحقيق لتحديد المسؤوليات وتفادي تكرار مثل هذه الحوادث التي وصفها بـ”المؤسفة” مستقبلاً.
من جهته، قال مدير المصنع إبراهيم أبسخرون إبراهيم في بيان، إنّ إدارة المصنع تؤدّي واجبها كاملاً تجاه كلّ الضحايا الذين فقدوا أرواحهم وهي تلتزم كذلك بنفقات علاج المصابين، مؤكداً أنّ إجراءات السلامة في المصنع كاملة وكلّ شيء جاهز بحسب المعايير المطلوبة من قبل الدفاع المدني، الجهة المختصة في هذا الشأن. وأشار إبراهيم إلى أنّ الدفاع المدني يقوم بزيارات مستمرّة للمصنع بهدف معاينة أجهزة السلامة وذلك لقاء بدل مالي، بالإضافة إلى أنّه يصدر شهادات عقب زياراته تلك، والزيارة الأخيرة كانت في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي. وتابع إبراهيم أنّ قوات الدفاع المدني بذلت مجهوداً كبيراً ومقدّراً لإطفاء الحريق، لكنّه يأخذ عليها “وصولها متأخرة ساعة ونصف الساعة (…) على الرغم من أنّ وحدة الدفاع بالصناعات- بحري- على مرمى حجر من المصنع”. وطالب إبراهيم، في البيان نفسه، الجميع بانتظار نتائج التحقيق الجنائي الذي بدأته الجهات المختصة لأنّ أيّ تعليقات قد تؤثّر على التحقيق من جهة وتؤثّر جداً على تعاملهم مع شركات التأمين.
في السياق، يرى المهندس والخبير في مجال السلامة، الدكتور خوجلي أبو سيف، أنّه “لا يتوفّر أيّ إجراء حقيقي لعمليات الأمن والسلامة في أيّ من المنشآت إلا في ما ندر، وذلك نظراً إلى ضعف الإجراءات الحكومية في ما يخصّ الترخيص أو تجديد الرخص”. ويوضح أبو سيف لـ”العربي الجديد”، أنّ “ذلك كله يحدث لأسباب عدّة، منها ضعف ثقافة الإنسان السوداني في هذا المجال، ظنّاً منه أنّ تلك الإجراءات مجرّد تكلفة إضافية في العملية الاستثمارية، إلى جانب ضعف الرقابة من قبل الجهات الحكومية، خصوصاً الدفاع المدني ودوره المحصور في الختم على التصديق وعدم توفّر كادر مؤهّل وغياب الضوابط أو الخطط التي تلزم المستثمرين أو حتى المواطنين العاديين باعتماد تصميم السلامة في مخططات الدفاع المدني عبر شركات استشارية في هذا المجال”. ويلفت إلى أنّه في “عام 2007، تأسّست الشركة الاستشارية الأولى في مجال الأمن والسلامة في السودان، وهدفها مراجعة وإعداد تصاميم عمليات الأمن والسلامة للمنشآت بمختلف مسمّيات استثماراتها. وقد نسّقت تلك الشركة مع الدفاع المدني، لكنّه وللأسف كان يمرّر المخططات من غير الاعتمادات التي تخصّ الشركة من خلال التصميم وغيره”. ويشرح أنّ “ثمّة مبانيَ استراتيجية كبيرة على سبيل المثال نفّذت من دون تنفيذ أبسط المتطلبات من قبيل سلالم الطوارئ وكذلك العمل بنظام أمن وسلامة متكامل”.
ويؤيّد الأمين العام لجمعية حماية المستهلك، ياسر ميرغني، ما ذهب إليه المهندس خوجلي أبو سيف، قائلاً لـ”العربي الجديد” إنّ “إجراءات السلامة التي يشرف عليها الدفاع المدني غير دقيقة وهدفها الأساس جباية الأموال”. ويشير إلى “عشوائية شاملة في إجراءات الأمن والسلامة في قطاعات كثيرة، بما في ذلك حركة نقل الغاز والتجارة به وتخزينه، لا سيّما في الأحياء الشعبية حيث تنتشر محلات بيعه”. ويشدد ميرغني على “ضرورة تشكيل المجلس القومي للسلامة بمشاركة كل الجهات، بما في ذلك الدفاع المدني وجهات الرقابة على البيئة وجمعية حماية المستهلك، وإلا فإنّ النتيجة هي مزيد من تعريض حياة الناس للخطر”، مطالباً بـ”اختبار أيّ إجراءات يحدّدها المجلس بصورة دورية، مع تنشيط عمل الدفاع المدني الذي يصل في الغالب متأخراً جداً بعد وقوع حريق أو حادثة أخرى”.
بدوره، يعزو الناشط النقابي محمد علي خوجلي “ما يحدث من كوارث إلى قصور في إجراءات الأمن والسلامة في المرافق العامة، نظراً إلى ضعف إدارة الأمن الصناعي في وزارة العمل التي لا تملك أيّ إمكانيات وباتت وظيفتها فقط تلقّي الشكاوى من دون مهام التفتيش الدوري”. يضيف خوجلي لـ”العربي الجديد”، أنّ “التداخل بين الاختصاصات في مكاتب العمل والولايات هو سبب آخر يحدّ من التفتيش والرقابة، إلى جانب تلكؤ النقابات العمالية في القيام بواجبها لحماية العاملين والتشديد على أمن وسلامة المكان حيث يعملون”، مطالباً بـ”ترتيب جديد وهياكل جديدة تكون أكثر فاعلية بشأن إجراءات السلامة والأمن وفقاً للمعايير الدولية المعمول بها في كل بلاد العالم”.
أمّا الطبيب فاروق البدوي فيقول لـ”العربي الجديد”، إنّ “كارثة مصنع سيلا للسيراميك كشفت عن خلل كبير يتعلق بعدم استعداد مستشفيات الخرطوم لاستقبال ضحايا الكوارث”، مشيراً إلى أنّ “ملايين الأشخاص يعيشون في ولاية الخرطوم التي لا تضمّ إلا خمسة مستشفيات قادرة على التعامل مع الكوارث، فيما تفتقر البقية إلى المعدّات والمستلزمات المطلوبة والكوادر المؤهّلة، وهو ما يتطلب تحرّكاً عاجلاً من قبل وزارة الصحة في حكومة الثورة. فلا بدّ من تجهيز عدد من المستشفيات لهذا الغرض، على أن تشارك الوزارة نفسها في مراقبة إجراءات السلامة، خصوصاً في المصانع التي تستخدم مواد كيميائية”.
العربي الجديد