رأي ومقالات

لماذا فشل حمدوك فيما نجح فيه الجزولي؟!


تستهويني المقاربات والمقارنات والمباهلات في العمل الصحافي، لأنها تحتاج إلى قدرٍ ليس بالقليل من الجُهد والمثابرة في الدراسات والمراجعات، وتجذب كثير من القراء، لما فيها من جُهدٍ ومثابرةٍ. فعليه رأيتُ أن أُخصص هذه العُجالة في المقاربة والمقارنة بين دولة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور الجزولي دفع الله العاقب، ودولة رئيس الوزراء الحالي الدكتور عبد الله آدم حمدوك. وكلاهما يشتركان في تسنم رئاسة الوزراء في الفترة الانتقالية.

فالدكتور الجزولي هو الدكتور الجزولي دفع الله العاقب استشاري الأمراض الباطنية ورئيس نقابة الأطباء السودانية 1983- 1985، وقد قاد إضراب عام للأطباء عام 1985 معه النقابات الأخرى، مستغلين التدهور الاقتصادي حينها، مما أدى إلى نهاية حكم الرئيس الراحل جعفر محمد نميرى (1969- 1985). وقد تم اختيار الدكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء بإجماع النقابيين، بعد أن وافق قادة القوات المسلحة وعلى رأسها المشير عبد الرحمن سوار الدهب على تغيير نظام مايو.

وافق المجلس العسكري الانتقالي على فترة انتقالية مدتها عام تهيئ لانتخابات عامة، وقد أوفت تلكم الحكومة على كلمة قطعتها أمام الجماهير، وفي المدة المحددة. أما الدكتور عبد الله آدم حمدوك في المقابل رئيس وزراء حكومة انتقالية أو هكذا اسمها والسناريو متشابه مع الفارق، إذ أن التغيير الذي أطاح بحكم الإنقاد، جاء نتيجة صراعات وخيانات داخلية، بعد مظاهرات أمتدت إلى بضعة أشهر، ولم تتجاوب النقابات الإ بصورة خجولة، حيث أضرب نواب الأطباء بالتوقف عن العمل، ولكن الحالات الطارئة لم تتأثر به كثيراً.

يجمع كثير من المراقبين حتى قادة قحت بأن الحكومة الحمدوكية تنتابها الأعاصير، بل أقتلعت جذورها، ولم يمضِ عليها سبعة أشهر، لماذا عجز حمدوك من أن يقود هذه الحكومة في فترة انتقالية تنتهي بانتخابات تأتي بحكومة لها شعبية عريضه؟!

في رأيي الخاص، سودان 2019 لم يعد سودان 1985، إذ تشعبت المشارب وقويت الجهوية والعنصرية، ولم تصبح القوات المسلحة هى المؤسسة الوحيدة التي تملك السلاح وتفرض سلطاناً ورهبةً، بل هنالك جيوش موازية وحركات مسلحة، وقبائل تمتلك أسلحة متقدمة، فالمشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الدهب والمجلس العسكري الانتقالي كان سلطة مهابة، حفظت الأمن والسلم، رغم أن تمرد الجنوب، كان على ضراوته، وقد حفظت حكومة الجزولي للمجلس الاحترام الكامل، بل والتعاون الوثيق. في المقابل نرى أن المكون العسكري لتغيير 2019، جاء خجولاً يركض وراء قوى الحرية والتغيير، إذ أن الإنقلاب على الإنقاذ لم يتم عبر سلطة عسكرية، وضعت يدها على زمام الأمر، بل كان خيانة داخلية، مما أعطى قوى الحرية والتغيير اليد العليا في إملاء شروطها، فقبلوا بما رفضوه أول مرة (من نسبة مشاركة الحرية والتغيير في المجلس التشريعي 67%، وتكوين مجلس سيادة معظمه من المدنيين، والمناصفة في منصب الرئيس).

في الوقت الذي اتفقت فيه القوات المسلحة عام 1985 مع حكومة الجزولي أن تكون حكومتهم حكومة انتقالية تهئ لانتخابات عامة. كان رأي الحرية والتغيير أن تكون حكومتهم حكومة تغييرٍ كاملٍ لكثير من أوجه الحياة، تغيير لا تقوم به حتى الحكومات المنتخبة. ومن هنا كانت مطالبة قحت أن تكون الفترة الانتقالية أربع سنوات، وهى بكل المقاييس فترة طويلة لحكومة لا يسندها تفويض شعبي، خاصةً أن التغييرات الجذرية التي خاضوها تحتاج لسندٍ شعبيٍ كبيرٍ، وكلمة انتقالية تستعمل مجازاً، ولا تعني ما تشير إليه الكلمة، واعتقد أنه إذا سار الحال إلى رخاءٍ، وبحبوحةٍ من العيش، لن تسلم هذه الحكومة الأمر لأحد ولا ستعقد انتخابات أو تُنشئ مجالس يشترك فيها غيرهم. هكذا نرى زهد سوار الدهب والجزولي في الحكم، مقابل التمسك الهستيري لقحت وشركائها من العسكريين. سوار الدهب والجزولي كشخصياتٍ وطنيةٍ غير سياسيةٍ أو حزبيةٍ أعطت حكومتهم شرعية جمعت حولهم معظم السودانيين. الفارق الأعظم في رئيسي الوزراء الجزولي وحمدوك، أن الجزولي قاد الثورة بنفسه ومن الداخل، ودخل سجون الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، في الوقت الذي كان فيه حمدوك متفرجاً على ما يجري في السودان، إلا ما كان له من علائق مع اليسار والتعاطف الذي يُبديه الرجل للحزب الشيوعي الذي كان عضواً فيه.

ويكفي أن حمدوك جاء بعد أن انتهى فصل من فصول التغيير، وكان المرجو منه أن يكوِّن حكومة ذات قاعدةٍ عريضةِ تُرضي طموح المواطن، وتسعى لحل المشاكل التي أرهقت الإنقاذ، من تدهور اقتصادي ومعاناة في الحصول على الأساسيات، ولكنه استسلم لشباب قوى إعلان الحرية والتغيير الذين أملوا عليه اختيار نساءٍ ورجالٍ، لا خبرة لهم معظم وقتهم كانوا خارج البلاد، أما في مؤسساتٍ صغيرةٍ أو منظماتٍ طوعيةٍ أو على رصيف اللجوء السياسي، ودرايتهم بالبلاد، وما تم فيها من تغييرٍ وتنميةٍ وتحول في البشر كان ضعيفاً، مما جعل أداءهم بائساً. ويكفي أن نقول إن البلاد ظلت بلا حكومةٍ أشهرٍ معدوداتٍ، وبلا حكوماتٍ ولائيةٍ إلى يوم الناس هذا. وللأسف، أن الوزراء يقفون الآن في مدرجات المتفرجين، وكأن الأمر لا يعنيهم، ولم يحدث أن تظل وزارة مهمة كوزارة الصحة بولاية الخرطوم بلا وزير لمدة ثمانية أشهر أو يزيد.

وأحسبُ أن الوزراء في عجلةٍ من أمرهم، إنفاذاً لمخططٍ يساريٍ يُغير وجهة البلاد السياسية والاجتماعية والدينية. وكأن الحزب الشيوعي الذي سيطر على الحكومة الآن يتعاون في الأفكار والرؤى مع حزب البعث والحزب الجمهوري، يستبق الحزب الشيوعي الزمن ليؤسس لحكومة علمانية يسارية، لا تتحول ولا تتغير سياستها حتى وإن جاءت حكومة منتخبة ذات أفكارٍ مغايرةٍ. حكومة الجزولي تكونت من عدد من المهنيين والعلماء وخبراء في الخدمة المدنية، ورغم أن بها عدد من اليساريين إلا أنهم جاءوا من داخل البلاد، ولهم علائق اجتماعية بطيف كبير من الأحزاب الساسية والأشخاص، مما جعل فترة العام تمر بسلامٍ، ولم تخلو من الإنجازات.
أخلص إلى أنه، ما ضرب حكومة الحمدوك في مقتلٍ، هوعدم وضوح الرؤية، وعدم وجود برنامج محدد للحكومة، وتشتت قائمة الأولويات، وعدم الاكتراث الذي اتصف به الوزراء والسفر المكرور الذي فُتن به رئيس الوزراء حتى أن الاحصاءات توضح أنه يسافر خارج البلاد في الشهر ثلاث مرات. وحقاً، فإن حكومة حمدوك هي حكومة متنقلة في عواصم العالم. وللأسف، فإن ناتج هذه الزيارات كان محبطاً، وأضاف أعباء ثقيلة على الخزينة العامة. وقد ذكرت مصادر أن رحلته غير الموفقة الأخيرة للولايات المتحدة الأميركية، كلفت الخزينة العامة فوق ال 381 ألف دولار، ومحصلتها مذكرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب بأننا حضرنا ولم نجدكم! وأن تصريحات دولة رئيس الوزراء، وتصريحات بعض الوزراء غير موفقة، خاصةً المتعلقة بإعلان إفلاس السودان (وزير المالية) وفشل وانهيار الدولة، والتهديد المبطن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بأن السودان غير مستقرٍ، وسيؤدي انهياره إلى غزو أوروبا بجيوش اللاجئين، ويهدد أمن الولايات المتحدة الأميركية، لعلها كشف عورة لم تؤتِ أُكلها، وهي تصريحات تنم عن ضعف التجربة.
أحسب أن فشل حكومة حمدوك يتلخص في:
1- تبطين البقاء في الحكم تحت مظلة حكومة انتقالية.
2- عدم مشاركة رئيس الوزراء، وكثير من الوزراء في عملية التغيير في البلاد، الأمر الذي كان يمكن أن يكسبهم خبرة، وقرب من المواطن.
3- السعى لإحداث تغيير كامل في الحياة السودانية، الأمر الذي لا يتناسب مع طبيعة “الانتقالية”.
4- تخندق المكون العسكري، وتحاشي أعضاء مجلس السيادة من القوات المسلحة من الإسهام في الحكم الراشد.
5- عدم خبرة معظم الوزراء والتعيين بكفاءة المشاركة في الاعتصام.
6- التمكين اليساري، خاصة الشيوعي (التنظيمي والمطرود) من الحكومة، أشخاصاً وأفكاراً.
7- العجلة والاستعجال في اجتثاث الإسلاميين من مناصب الدولة، وتمكين اليسار في هذه المناصب، سيُرى وكأنه تمكينٌ مكان تمكينٍ.
8- الفشل الذريع في معالجة الأزمة الاقتصادية، والبحث لحلول مشاكل السودان في عواصم العالم المختلفة.

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
106618