عبد الوهاب الأفندي ومفارقات الأفندية بشأن الديمقراطية أو: عبد الوهاب الأفندي والقلم الذي لا يزيل بلما
عبد الوهاب الأفندي ومفارقات الأفندية بشأن الديمقراطية. أو: عبد الوهاب الأفندي والقلم الذي لا يزيل بلما. ولكل أفندي – كما هو معلوم – قلم.
قلت: “عزمت اليوم على الكتابة بعنوان “الديمقراطية في المصطلح السياسي وفي البحث العلمي” لبيان استخدام الساسة المنتسبين إلى الإسلام وعامة الناس لهذا المصطلح استخداما لا صلة له بالعلم المبني بالمعرفة والمنطق والاستدلال الصحيح وبيان الفرق الحوهري بين أن تكون مسلما وأن تكون ديمقراطيا لأخلص إلى تقرير وإثبات أن كل بحث سعى إلى التوفيق بين الإسلام والديمقراطية هو بالضرورة بحث غير علمي مردود بالحجج والأدلة في أروقة الدارسين أولي الفهم. ولن يحصل مقدمه على درجة علمية أيا ما كانت لأن الأدلة لن تسعفه على الإطلاق.
ذلك لأن حق التشريع المطلق في الإسلام هو لكتاب الله تعالى الذي أنزله ليحكم به الناس جميعا. وفي الديمقراطية حق التشريع المطلق للشعب عبر تداوله وأغلبيته في جمعيته التشريعية. ولا يجمع بين هذين المبدأين المتباينين تماما عالم من أهل التحقيق. فإن لم يكن تحقيق فهو الجهل الذي يستحيل أن يكون علما إلا بين عوام المثقفين والمتعلمين.
عزمت على الكتابة اليوم بالعنوان السابق فإذا إحدى المجموعات تنشر قول الأفندي: “هل يمكن أن يساهم الإسلاميون في دعم الديمقراطية؟!!” الذي خلص فيه إلى الحكم دون مقدمات معقولة بقوله: “من هذا المنطلق، يمكن للإسلاميين الصادقين في توبتهم عن ممارسات النظام السابق أن يقدّموا مساهمة فاعلة في تثبيت أركان الديمقراطية في البلاد عبر الدخول في عمل سياسي ومدني مسؤول.
فليتبصّر أهل التبصّر قبل فوات الأوان، ولا يكونوا مثل آخرين بذلنا لهم النصح، فجازونا بالشتم والتخوين، وهم اليوم بين سجين ومطارد وخائف، جزاءً وفاقاً. ومع ذلك، لا يزال غالبهم سادراً في غيه. *والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.*” انتهى كلام الأفندي.
والذي يعلمه الأفندي ويعلمه كل المهتمين بفكر حركة الإسلام السياسي أن هذه الحركة بدأت في بواكير نشأتها بالسعي لأسلمة الديمقراطية الحاكمة بعد خروج المستعمرين أو أثناء وجودهم بوصفها حقا بأنها نظام المستعمر الكافر الذي يمنح الشعب حق التشريع المطلق. إلا أنها لم تلزم منهاج الأسلمة الرباني الفريد ألا وهو الدعوة والصبر على الدعوة أو الجهاد عند القدرة على ذلك فدخلت في نظام الكفر ذاته الذي زعمت أنها تريد أسلمته. وفي السودان وفي غيره من البلدان غيرت هذه الحركة فكرها تماما بإحلال السياسة وثقافة العوام محل العلم بل اشتطت فأطلقت في السودان على الديمقراطية نفسها اسم دولة المدينة المنورة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وحين سأل طلاب نيجيريون أستاذهم عبد المتعال زين العابدين بإحدى جامعات نيجيريا عن الإسلام والديمقراطية ذهب وألف لهم كتابا في بيان الفرق الجوهري بين هذه وذاك. لا خلاف في هذا الأمر في ساحات الدرس والعلم والمنطق. ولو أنك قرأت تعريف كلمتي “إسلام” و “ديمقراطية” في اقرب دائرة معارف أو حتى في معجم طلاب صغير لما وجدت غير مفهومين يقفان على طرفين نقيضين إذ ينقض حكم الرب حكم الشعب وينقض حكم الشعب حكم الرب وينقض الديمقراطي ديمقراطيته إن أسلم وينقض المسلم إسلامه إن صار ديمقراطيا.
والمفارقة هي أن ما هو نظام في عبارة “النظام الديمقراطي” لا صلة له بالديمقراطية التي لا تعني غير حكم الشعب وحقه المطلق في التشريع في مبناها الكلمي وفي ممارستها الفعلية في دول الكفر أو في السودان بعد خروج المستعمر حين كان حق التشريع للشعب في جمعيته التأسيسية وعجزت الأحزاب الحاكمة عن تحريم حاكمية الشعب وتحريم الخمر والزنا والربا والميسر التي صرح بها المستعمر الكافر وحرمها القرآن الكريم مصدر التشريع لدى المسلمين. ومعلوم أن الأحزاب السودانية قد ايقنت أن حركة الإسلام السياسي نافقت حين زعمت إرادة أسلمة الحكم لأنها لم تتبع المنهاج المعلوم لذلك ألا وهو الدعوة والصبر على الدعوة أو الجهاد. وقبل كل هذا حسن الخلق الذي علمت الأحزاب أن الحركة افتقدته حين وصمتهم بصفة “ربائب الاستعمار” الذين قام المستعمر بتربيتهم ليحكموا بنظامه الكافر بعد خروجه. وتجلت مفارقة حركة الإسلام السياسي لمنهج الإسلام الإصلاحي بقبولها الدخول في نفس نظام المستعمر الذي تريد تغييره فاستبان أنها رفعت الدين شعارا للكسب السياسي فأطلقوا عليها وعلى الحزب الشيوعي مصطلح الأحزاب العقدية.
ولكي تعرف أن ما هو نظام في عبارة “النظام الديمقراطي” لا صلة له بالديمقراطية وتعرف السارق والمسروق اقرأ كلامي هذا الذي فيه قلت: “أهم اجتماع في تأريخ الإنسانية هو ذلك الذي أخبر فيه االله تعالى الملائكة عن عزمه على خلق الإنسان في الأرض. وقد اشتمل سياق هذا الخبر على إشارة إلى أكثر المفاهيم والإجراءات تقدما ألا وهي: الزعامة والأتباع (وهذه تشكل الجماعة) والتداول وحرية الفكر وحرية التعبير (بل واجب التعبير عن الرأي) والجدل بالأدلة واتخاذ القرار النهائي. كل ذلك في كلمات موجزة: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون”.
وكان العمل بكل هذه المفاهيم والإجراءات قبل خلق الإنسان في ذلك الاجتماع بشأن خلقه إشارة إلى واجبه التزام العمل بذلك بعد خلقه. أما واجب التعبير عن الرأي فهذه إشارة إلى سكوت إبليس عن الإفصاح عن رأيه في الأمر الذي عرض على الجماعة وقيام الملائكة بذلك لكي لا يكتموا الشهادة وليستحقوا رتبة أن يكونوا في الملأ الأعلى عند الله تعالى.
وحين اختلفوا في كفالة مريم بعد وفاة والدها اقترعوا حسما للخلاف فكانت كفالتها من نصيب زكريا عليهما السلام. وكذلك اقترعوا لإلقاء أحدهم في البحر لتفادي غرق مركبهم. فلما وقعت القرعة على يونس عليه السلام أجمعوا على إعادتها لتفادي إلقاء الرجل الصالح في اليم فوقعت عليه مرة أخرى وثالثة ثم داهمهم الوقت فألقوه مرغمين عملا بنتيجة الاقتراع. وفي هذه الحادثة الأخيرة مفهوم الإجماع وهو إجراء متقدم لاتخاذ القرار. والنص عن الاقتراع للكفالة هو: “وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون”. والنص الآخر هو: “فساهم فكان من المدحضين”.
إن كل هذه المفاهيم والإجراءات المتقدمة أخذتها الديمقراطية من الله تعالى ولا صلة بينها وبين مفهوم الديمقراطية فهذا اللفظ يشير إلى من له السلطة ويحدد أن ذلك هو الشعب وليس الرب أو جهة أخرى غير ذلك. والكلمة كما هو معلوم تتكون من لفظين معناهما سلطة الشعب أو حكم الشعب ولا صلة لهذين اللفظين بالاقتراع وحرية الرأي وحرية التعبير عنه وبمفاهيم الشورى والإجماع والتداول كما سبق بيانه. وكل هذا قد أخذه النظام الديمقراطي من الله تعالى الذي أشار إليه في القرآن الكريم قبل أن يخلق الإنسان.
ويخلط كثير من المسلمين بين الديمقراطية وبين المفاهيم والإجراءات التي أخذتها الديمقراطية من الله تعالى الذي علم الإنسان كل ما يعلم. ومن خلط كثير من المسلمين في هذا الصدد ترديدهم عبارة “الديمقراطية الإسلامية” والإسلام الذي يعطي السلطة للقرآن الكريم كتاب الرب هو مفهوم مختلف اختلافا جذريا عن مفهوم الديمقراطية التي هي سلطة الشعب وحكمه. والمفارقة الكبرى هي أن ما هو نظام في عبارة “النظام الديمقراطي” هو ما أخذته فكرة الديمقراطية من الله تعالى من إجراءات الاجتماع والتداول وحرية الفكر وحرية التعبير عنه وواجب التعبير عنه والاقتراع وهذه ليست لها صلة كما سبق بيانه بكلمة ديمقراطية وبذلك فلا صلة لهذه الكلمة بمفهوم النظام. إن معناها هو أن سلطة الحكم والتشريع تكون للشعب لا لجهة غيره قرآنا او غير ذلك وإنما أخذت الديمقراطية كل تلك الإجراءات من الله تعالى لتحقيق ذلك المفهوم ألا وهو سلطة الشعب. أي رفضا لسلطة الرب ممثلة في القرآن الكريم. ومعلوم أن الديمقراطية المتأخرة نشات في سياق رفض سلطة الدين في الفكر العلماني. فالديمقراطية هي بنت العلمانية التي تحقق في الواقع هذا الفكر الموجود في الأذهان والكتب.
والأمر التقدمي الذي رفض الفكر الديمقراطي أخذه من الله تعالى هو مسألة وحدة الجماعة والزعامة ووجوب التداول والاتفاق والاختلاف في إطار الجماعة الواحدة بقيادة الزعيم الواحد وحسم الخلاف بالاقتراع والإجماع أو ترجيح رأي الزعيم والأخذ بما عزم عليه بعد التداول. وكل هذا أشارت إليه نفس الآية قبل خلق الإنسان وعرضه الله تعالى على الجماعة وتداولت بشأنه واتخذ الرب قراره بعد التداول. ومعلوم أن في كل القرآن الكريم حزبين فقط واحد منهما غير مصرح له بالعمل مع أنه بمعنى من المعاني هو الأكثر نشاطا وعملا وهو حزب الشيطان. والحزب الذي أوجب الله تعالى عليه العمل هو حزبه هو حزب الرحمن بهذه المفاهيم والإجراءات المتقدمة التي أشار إليها القرآن الكريم قبل خلق الإنسان. هذا المخلوق الذي هو أكثر شيء جدلا بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. هذه هي حقيقة الديمقراطية للذين اتخذوها دينا بدل الإسلام ويريدون أن يحافظوا عليها ويتحدثون بلا علم عن صيانتها. “أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم”. والله المستعان”.
د. صديق الحاج أبو ضفيرة
جامعة الخرطوم.