صلاح الدين عووضة

ملل!


صلاح الدين عووضة
كتبت خاطرة عنه..
فلما احتجت إليها أمس فوجئت باختفائها في ظروف غامضة..
أو ربما في ظروف مملة… إذ آثرت التلاشي مللاً..
فشعرت بحالة من الشلل… فضلاً عن الملل..
وفيلسوف كتب مرةً خاطرة عن الملل هذا… قال فيها إنه يشعر بروحه تتلاشى..
وأنيس منصور وصفه بنمل يدب على الجسد… فيشله..
والأصح إنه يدب على المخ – وفيه – أولاً فيشله… فيؤدي ذلك إلى شلل الجسد.. وهو شلل يعني هنا انعدام إحساس المرء بأعضائه… فالحياة..
أو شعوره بظلمات فراغ… بعضها فوق بعض… لو أخرج يد (أملٍ) لم يكد يراها..
والملل قد يكون جماعياً أحياناً… لا فردياً وحسب.. وذلك حين يسرى تأثيره المدمر بين أفراد شعب بحاله…. جراء أوضاعٍ ما.. وعندها قد تنفجر الأوضاع هذه… كسراً للملل..
فتنكسر دول وحكومات وحضارات… ولا أدري لم أغفل ابن خلدون هذا العامل..
فهو أيضاً يؤدي لانهيار دول… وإن بدت قوية ظاهرياً..
فالملل الجمعي مؤشر إلى وجود علة سياسية لا ينتبه لها الحاكمون… وبطائنهم..
ويمكن تشبيهه-سياسياً- بدائرة (فراغ) شعبي كبيرة..
دائرة مفرغة من كل شيء؛ الأمل… الطموح… السعادة… الأطايب… والرضا..
وتقابلها دائرة (امتلاء) رسمي صغيرة؛ بالقيادات… والطيبات..
وعندما تبلغ الدائرة الأولى ذروتها قد تنفجر في وجه الثانية… ونكتفي بمثالين: الثورة الفرنسية… والثورة البلشفية الروسية..
ففي هاتين الدولتين ضاقت الدائرة الثانية على فئة بعينها… واُتخمت بها امتلاءً..
واتسعت الأولى على الشعب؛ واُفرغت منهم مللاً..
فما عاد أفراد الشعب يحسون بالحياة… ولا بالأمل… ولا بأنفسهم… ولا بعقولهم..
وتحت تأثير عدم الإحساس بالعقول هذا حدث الـ(لا منطق)..
فتم إزهاق أرواح حتى أطفال كانوا يملؤون الدائرة الرسمية…. وتمتلئ بهم.. وتمتلئ شهوات البطون… والفروج… والجيوب، وما من شبع..
وعلى الصعيد الفردي قد تتجاوز دائرة الملل حدود الشلل فتنفجر في وجه صاحبها..
فينفجر في أقرب وجوه تحيط به… كيفما اتفق..
وأذكر أن أستاذنا لعلم النفس كان قد لاحظ في زميل لنا ما رصده بحكم تخصصه..
فناداه في مكتبه وسأله : هل تشعر بالملل يا ابني؟..
فأجاب الزميل فوراً : نعم… ثم شرح له أسباب ملله هذا بالتفصيل (الممل).. وتتلخص في التضييق الشديد الذي تمارسه عليه الأسرة..
لا تلعب مع هذا… لا تتحدث مع هذه… لا تجيء إلى هنا… لا تذهب إلى هناك..
كورة لا… سينما لا… روايات لا… رحلات لا ؛ كله لا في لا..
فبدأ يشعر بالملل من وجوه بعينها تحيط به في جميع الأوقات… عدا فترة الدراسة..
فطلب منه الأستاذ إحضار ولي أمره… وانكسرت دائرة الملل..
فالتضييق… مع القهر… مع الكبت… مع تكرار الوجوه ؛ من عوامل الشعور بالملل..
مثل الملل الذي تلبسنا أيام الإنقاذ للأسباب هذه..
والآن انتفت هذه العوامل عقب الثورة؛ فلا قهر… ولا كبت… ولا حجر على رأي..
ولكن – ورغم هذا – بدأ الملل يدب على عقولنا؛ فأجسادنا..
بل ويزداد دبيبه صخباً-ووجعاً- مع بزوغ شمس كل يوم جديد؛ وغروبها..
والسبب-هذه المرة- العجز..
العجز عن إيجاد حلول لكل ما كنا نعانيه إبان الحقبة البائدة… فيجلب لنا الملل..
مثل عجزي ذاك عن إيجاد خاطرتي عن الملل.. وإن كان الشلل أعقب عجزي ذاك- كعرض- فإنه يمكن أن يجيء سابقاً؛ كسبب..
والخلاصة أن قيادة ثورتنا أسيرة الشلل؛ فالفشل..
ونحن الملل !.

صحيفة الأنتباهة