النُخب المُتحجرة !
أكدت واقعة لقاء (البرهان ونتنياهو) بأن النخب والأحزاب السياسية بعيدة تماماً عن نبض الشارع وافتقادها لأي نوع من أجهزة قياس الرأي حتى تكون على علم بما يريده الشارع فتقترب منه بانحيازها لرغبة الأغلبية، أو على الأقل احترام هذه الرغبة وعدم تجاهلها ووضعها في الاعتبار عند وضع السياسات واتخاذ القرار!
* بينما أيدت غالبية الشعب لقاء (البرهان ونتنياهو) خاصة في أوساط الشباب ــ وللأمانة فإنني لم اعتمد على مقياس علمي للقطع بهذه الأغلبية لعدم وجود مراكز أو وسائل لاستطلاع الرأي في البلاد رغم أهميتها القصوى في كل مجالات الحياة، وهو ما يدعو للدعوة لوجود مثل هذه الخدمة المهمة ــ إلا أن كثرة التعليقات المؤيدة للقاء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي او اللقاءات الشخصية مقارنة بالمعارِضة له، تجعل الشخص مطمئنا نوعاً ما لوصف مؤيدي اللقاء بالأغلبية مع التأكيد مرة أخرى بعدم دقة هذه الطريقة !
* بينما أيدت الأغلبية اللقاء، وقفت النخب والأحزاب السياسية في الصف المعارض لها، وتكالبت على إصدار البيانات واطلاق التصريحات الصحفية التي ترفض اللقاء، وتؤكد بوضوح شديد ابتعادها عن القاعدة الشعبية والتمسك بأفكار وآراء عفا عليها الزمن تخلى عنها حتى أصحابها، ولم يعد لديها شعبية تذكر مثل القومية العربية والناصرية والبعث والاشتراكية العلمية والاسلام السياسي وأفكار من هذا النوع لا توجد الا في أذهان قلة لا تزال تعيش في العصر الحجري للتاريخ، وتضع جميعها القضية الفلسطينية والعداء مع دولة اسرائيل كقضية محورية لها، تستخدمها كأداة للبقاء وتستغلها لإثارة العواطف والتعاطف معها، ولا تحظى سوى بتأييد قلة إما مغيبين عن الحقيقة أو متمسكين بماضٍ مات واندثر ولم يعد لديه وجود إلا في احاديث الذكريات والعواطف!
* لقد قرأنا وسمعنا تصريحات وتعليقات مثل (القضية الفلسطينية خط أحمر)، و(الجهاد لتحرير القدس) .. وعبارات من هذا النوع للتعبير عن رفض اللقاء، وهي نفس العبارات التي ظللنا نسمعها منذ طفولتنا بدون ان يتحقق منها شيء، حتى اخذت تتراجع من سنة لأخرى، وتراجع عدد المتمسكين بها، ولم تعد تثير سوى الشفقة أو الضحك في عالم لم يعد يحتمل الكثير من الأفكار التي كانت تصلح في الماضي لإذكاء الصراع وإثارة العواطف والحصول على التأييد الشعبي، واصبح أكثر علمية واكثر ليبرالية واكثر انفتاحا على بعضه البعض وأكثر إيمانا بضرورة التعاون بين الشعوب والثقافات من اجل البقاء والتخلص من المشاكل الكبيرة التي تؤرق البشرية مثل ازمة الغذاء والماء والتلوث البيئي والتغير المناخي، وتحقيق الرفاه المطلوب والانطلاق نحو الأمام، لم يعد في هذا العالم، رغم وجود الكثير من البؤر الملتهبة والتفكير الأناني، مجال لحديث عن (خط احمر وجهاد ) وعبارات وافكار ساذجة من هذا النوع لم تعد تثير إعجاب أو حماس أو قبول أحد إلا معتلي العقل ومختلي الفكر ومراهقي السياسة !
* البعض مثل الامام الصادق المهدي نحا منحى مختلفاً عن أصحاب (الخط الأحمر والجهاد) مبرراً رفضه للقاء السوداني الإسرائيلي بأنه سيؤلب المتطرفين ويضع البلاد في مواجهة جماعات التطرف، وهو تبرير غريب وحجة غير مقبولة، فمتى كان الخوف من اللصوص مبرراً لهجر الناس لمنازلهم، او كانت تهديدات المجرمين والارهابيين سبباً للبقاء داخل المنازل وترك العمل والحياة وتحقيق الرغبات، لو استسلم الناس للخوف والتهديد لما فعلوا شيئا، ولم تتطور الحياة، لكي نحيا ونحقق إرادتنا، يجب أن نقضي على الإرهاب والإرهابيين ، لا ان نخاف منهم وننصاع لرغباتهم وتهديداتهم، وإلا حكم المجرمون العالم وتحكموا في حياة الناس !
* لو كانت النخب والأحزاب السياسية تأمل في الفوز بثقة الناخبين وتأييدهم والتطلع لإدارة البلاد بهذه الأفكار المتحجرة، والهوة الكبيرة التي تفصل بينها وبين الشعب وابتعادها تماماً عن نبض الشارع، فهي واهمة ولن تجني سوى الفشل، وسيظل السودان يخرج من حفرة ليقع في أخرى، ويقف شعبه في صفوف الرغيف والبنزين والجهل والمرض إلى الأبد !
زهير السراج
الجريدة