حيدر المكاشفي

نكد الكهرباء


يقيني أن أي أحد من سكان الخرطوم لو سئل هذه الأيام عن أكثر ما ينكد عليه حياته ويتسبب في تعطيل أعماله ومصالحه، لأجاب بلا تردد هي الكهرباء، وهذه بلا شك إجابة نموذجية ومثالية (حد يقدر يغالط)، فما من معاناة أصابت أهل الخرطوم هذه الأيام على ما هم فيه من نكد مثل الانقطاع المتكرر والمتطاول والعشوائي للتيار الكهربائي الذي عم كل أرجاء العاصمة بلا استثناء، لا فرق بين ديوم وعمارات وأحياء راقية وأخرى طرفية ودرجة أولى ودرجة ترسو، فما قبل شروق الشمس مرات وحلول الليل مرات أخرى تصير كل أحياء الخرطوم سواسية كأسنان المشط في الظلام والحر، هذا الحال السوداوي هو ما ارتفع بضغط الناس واصابهم بالضجر والتململ، فهذه والله ايام تعيسة تحالف فيها على الناس سواد الليل وحلكته مع جيوش البعوض التي عادةً ما تبدأ غاراتها تحت جنح الظلام، هذا غير الحر اللافح والحرارة اللاهبة التي يكابدونها آناء النهار لانعدام التيار.. وهذا والله حال لا يتناسب مطلقاً مع مظهر الخرطوم كعاصمة وعنوان للبلاد، فما عليه حالها هذه الايام يعني أن الخرطوم قد تريفت وأصبحت مثل قرية (حشوا فروا) النائية المنسية، التي يعتبر امتلاك بطارية وناموسية فرض عين على كل ساكنيها، والمفارقة هنا هي أننا بدلاً من أن ننقل المدينة والمدنية إلى الريف لينعم بخدمات كهرباء مستقرة وخدمات صحية وببيئة صحيحة ونظيفة، حدث لنا العكس، إذ نقلنا حياة الريف ليس إلى المدينة فحسب، بل إلى عاصمة البلاد.. من المؤسف أن تبدأ إدارة الكهرباء في تنفيذ برمجة قطوعات عشوائية غير معلنة ظلت تباغت بها المستهلكين طوال الأيام الماضية ولساعات طويلة، ثم تتركهم في ظلامهم يتخبطون ومن السخونة يزمجرون، دون أن تعيرهم أدنى التفاتة ولا تكلف نفسها حتى عناء إخطارهم مسبقاً، وقد ظل هذا هو ذات أسلوب العهد البائد الاستعلائي المتعالي الذي تدير به إدارة الكهرباء علاقتها بجمهور المستهلكين المساكين الذين تتسلط عليهم بعقد إذعان يبيعهم الكهرباء مقدماً (سمك في موية)، ثم لا تتحمل أية آثار نفسية ومادية تترتب على قطوعاتها المتكررة والطويلة، لكن العجيب وبعد كل هذه الحقوق لمشتري الكهرباء أن الهيئة وبدلاً من أن تواددهم وتلاطفهم وتخفف عليهم المصاب الذي ألمّ بهم بسببها، فإنها لا تقيم لهم أي وزن، شأنها في ذلك شأن من يسود الناس ويسوسهم بالصلف والعنجهية، وربما كان استفرادها بهم واحتكارها لمصيرهم الكهربائي سبباً في ذلك، ولم تبرع إدارة الكهرباء حتى الآن في شيء مثل براعتها في التنكيد على الخلق وإفساد أمزجتهم وإتلاف أعصابهم وبعض أجهزتهم وأدويتهم وطعامهم المدخر داخل الثلاجات الذي يحصلون عليه هو الآخر بشق الانفس.. وفي انتظار الفرج من آلية معالجة الأزمات المتلازمة فما تراها فاعلة لطرح حلول عاجلة.

حيدر المكاشفي

الجريدة