تحقيقات وتقارير

مع توفر البيئة الحاضنة لها .. الشائعات والخُرافة في السودان .. جائحة أخرى !!


في الوقت الذي تجتاح فيه فيروسات كورونا كل قارات العالم، و تتحول فيه حياة الشعوب و تتغير أنماط السلوك المجتمعي، هو ذات الوقت الذي ترتفع فيه سقوف التأويلات والظنون وتتكاثر فيه الهواجس والمخاوف وربما الآمال والأحلام، بحسبان أن البيئة المجتمعية الآن مُهيأة أكثر من أي وقت مضى لغزو فيروسات (الشائعات) وربما الخرافات والأساطير.

السودان كغيره من دول العالم تأثراً وتأثيراً بنوعية هذه الأجواء التي خلقتها تلك الفيروسات الفتاكة، بيد أن البيئة السودانية هي الأقرب لارتفاع عقيرة المخاوف والظنون والتأويلات، نتيجة للتعقيدات الهائلة التي تطفو على سطح الحياة المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في السودان، وهو ذات الأمر الذي يدفع فاعلية الشائعات وحتى الخُرافة للسيطرة على عموم المشهد، بل ربما يصبح تغولها في حيثيات الحياة العامة، أمراً ممكناً ووارداً في حال أية انحسار محتمل لظلال التفكير العلمي والواقعي وغياب الشفافية والمعلوماتية ومراكز الاستنارة ومنصات التوعية اللازمة.

حكاية طفل الشاي

بالأمس انهالت مواقع التواصل الاجتماعي في السودان في تداول خبر غريب ومُدهش، حيث حكى الرواة أن طفلاً حديث الولادة وضعته أمه في الساعات الأولى من فجر الخميس في إحدى مناطق السودان، وفور ولادته تحدث الطفل حديث الولادة ونطق بأن علاج الكورونا يكمن في تناول كوب من الشاي ، ثم توفى الطفل في الحال!!. الخبر لم يكن غريباً أو منافياً لقانون المنطق والواقع فحسب، لكن غرائبية الخبر جعلته ينتشر انتشار النار في الهشيم، وكأن السودان أوجد حلاً سهلاً وسريعاً لأكبر مشكلة تواجهها البشرية في القرن الحالي.

كثير من رواد مواقع التواصل بالطبع استهجنوا الخبر ووصفوه بـ(العبط) والجهل وأرجعوه إلى نوعية نمط التفكير العام بين كثير من عوام الناس، إلا أن ظاهرة تفشي مثل هذه الأخبار مثلما وصفها الباحث الأكاديمي في علم النفس، إبراهيم محمد أحمد الحاج، بأنها في العادة تنمو مثل هذه الأخبار في الأجواء التي يسيطر عليها الخوف والفزع ، ومما يدفع الإنسان لانتاج سيناريوهات أخرى بقصد إعادة بث الأمان والإطمئنان في النفس. وقال الحاج لـ(الجريدة) إن الانسان عموماً في حال اصطدامه بحائط العجز والفشل في إيجاد حلول للمرض المميت، غالباً تغزو حياته مثل هذه القصص التي تكون بمثابة طاقة إستيعاضية لملئ الفراغات التي تسبب فيها التفكير الواقعي العاجز، هذا فضلاً عن أن الثقافة السودانية لا تخلو حمولتها التاريخية من الخُرافات والمعجزات والأساطير ، بجانب أن كثير من الناس يوجدون لها رافعة دينية واعتقادية بحكم التنشئة الصوفية لغالبية أهل السودان.

موت وزير الدفاع

في الأمس القريب عندما توفى وزير الدفاع السوداني الفريق أول جمال الدين عمر إثر نوبة قلبية مفاجئة في عاصمة دولة جنوب السودان، لم يمر الخبر المرور العادي والطبيعي، وسرعان ما تم تداول تفسيرات كثيرة وظنون، بحسبان أن المشهد السياسي في السودان يغرق الآن في أزمات كثيرة ومتلاحقة، و فور إعلان وفاة وزير الدفاع، سارعت هيئة تطوير منطقة حجر العسل والبسابير، بإصدار بياناً تم تداوله على نحو واسع في الوسائط الإعلامية، نعت فيه ابن المنطقة الراحل وطالبت السلطات بتشريح جثمانه منعاً للشائعات والفتن.

قالت الهيئة في بيانها، مع يقيننا التام أنه إذا جاء أجل أحدهم لا يؤخر ساعة ولا يُقدّم، لكننا ومنعاً لنشر الشائعات المنتشرة كالنار في الهشيم، ودرء لفتن كقطع الليل المظلم تحيط بالسودان وأهله إحاطة السوار بالمعصم، فإننا نطالب بتشريح جثمان الفقيد لمعرفة سبب الوفاة، وذلك بالتنسيق مع كل المؤسسات الحكومية المختصة. وبالطبع بعد هذا البيان الذي يُمثل أهالي الفقيد الراحل، لم تستطع الحكومة مواراة الجثمان الذي وصل الخرطوم مُغطياً بعلم السودان بعد أن ودعته دولة جنوب السودان بالموسيقى العسكرية ، قبل أن يُمر الجثمان بالمشرحة لمعرفة أسباب الوفاة. وبعد صدور تقرير الطبيب الشرعي الذي أكد بأن الراحل توفى نتيجة لذبحة صدرية لم تمهله طويلاً، تأكد لأهل الراحل بأنه لا توجد شُبهة جنائية وراء موت وزير الدفاع، ثم بعد هذا تمت مواراة جثمان وزير الدفاع وتم إغلاق الشائعات والفتن التي لو لا سيطرتها على المشهد السوداني لتمت مواراة جثمان وزير الدفاع فوراً.

شائعة حراسة حمدوك

ليس من الضروري أن يكون مصدر الشائعة أو مروجوها هم من قبيلة الجهلاء والبسطاء أو المتشعوذين، ولكن قد تتغير مصادر ترويج الشائعات بحسب الحاجة الماسة لنمو الشائعة وتأثيراتها في المشهد عموماً، و لم تنجو منصات صحفية وإعلامية مرموقة من تصدير وترويج الشائعات، حيث كان الكاتب الصحفي عبد الماجد عبد الحميد كتب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك منشورا قال فيه: ” رسمياً .. قوة عسكرية من قوات الأمم المتحدة بالسودان تتولى حراسة وتأمين رئيس الوزراء عبد الله حمدوك .. الحماية والحراسة تشمل تأمين تحركات حمدوك ومراقبة وتأمين خط سير موكبه في كل المواقع خاصة أثناء خروجه من منزله وعودته اليه بكافوري”.

وفي وقت لاحق سحب عبد الحميد منشوره وقام بكتابة اعتذار بشأن ما سطره بعد تأكيد القوات المسلحة أن الوحدة التي ترافق المسؤولين تتبع لها. وبعد سريان شائعة تأمين حمدوك من قبل قوات خاصة تتبع للأمم المتحدة، غرقت السوشيال ميديا في نقد هذا السلوك واعتبروه تهجماً واستخفافاً وتجريماً للقوات الأمنية السودانية، بينما البعض ذهب في مدح القرار، وأشاروا إلى أن التآمر على رئيس الوزراء قد يأتي من داخل المنظومة الأمنية السودانية نفسها، إلى أن قال متحدث باسم الأمم المتحدة في السودان إن ما يشاع عن تولي قوات أممية حماية شخصيات سودانية رفيعة المستوى غير صحيح، في وقت كشفت القوات المسلحة عن تولي وحدة خاصة مهمة التدخل السريع لحماية المسؤولين بالدولة. وأكد المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم أيمن سليمان بحسب “سودان تربيون” أن الأمم المتحدة ليست معنية بأمن المسؤولين الحكوميين. وأضاف أن السودان دولة ذات سيادة ولديها القدرة والمؤسسات التي يمكنها القيام بهذه المهام بكفاءة.

وكذلك أفاد مكتب المتحدث باسم القوات المسلحة في تصريح أن حراسة وحماية القادة تتم بقوات نخبة تسمى قوات الحماية والتدخل السريع . وأضاف “وهي قوة تقوم بالتدخل السريع لحماية مواكب الشخصيات الهامة ومدربة تدريب عالي للتدخل في حال اعتراض الموكب وتتبع الحرس الرئاسي بهيئة الاستخبارات العسكرية والذين يتميزون بالزي الأسود والمركبات السوداء علاوة على تأهيل وإمكانيات عالية. وأشار التصريح إلى أن هذا الوسم المتميز لهذه النخبة تسبب في ربكة للبعض بتبعيتها لجهات أجنبية وهو مجاف للواقع إذ أن حماية المسؤولين العسكريين والمدنيين شأن سيادي وطني بامتياز تضطلع به قواتكم بمهنية واحترافية مشهودة.

التشكيك في كورونا

منذ أن بدأ فيروس كورونا في غزو العالم، بدأت وزارة الصحة السودانية في التحسب لمنع انتشار الوباء في السودان الذي يعاني هشاشة كبيرة في قطاع الصحة عموماً، فضلاً عن المصاعب الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد السوداني على وجه التحديد. وعندما أعلن وزير الصحة الاتحادي عن وجود أول حالة إصابة بمرض كورونا أدى إلى وفاة مواطن سوداني قادم من الإمارات، سرعان ما نشطت الأخبار السالبة التي تشكك في صحة إعلان وزير الصحة، وأن المتوفي لم يكن مصاباً بالفيروس من الأساس، وأن نتائج فحوصاته أظهرت سلبية إصابته، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك حيث تم توجيه اتهامات مباشرة إلى وزارة الصحة بأنها أرادت استغلال جائحة كورونا بحثاً عن الدعم المادي من منظمة الصحة العالمية وصناديق الدول الكبرى.

وانضم للأخبار السالبة المتشككة في إعلان وزارة الصحة، بعض من ذوي المتوفي، وبعض من الكيانات والواجهات السياسية التي تعادي الحكومة الانتقالية، واعتبروا أن الحكومة أعلنت التدابير والطوارئ للحد من المناهضة الشعبية وصرف أنظار المواطنيين عن الضائقة المعيشية وفشلها في معالجة الأوضاع الاقتصادية. الحكومة من جهتها، لم تلتفت لهذه الأصوات ومضت في تكثيف إجراءاتها الصحية مستهدفة بذلك منع انتشار المرض، وهو ذات الأمر الذي وجد تقبلاً وتفهماً لدى الغالبية العظمى من المواطنين، بحسبان أن الإجراءات وعلى الرغم من قسوتها إلا أنها تمثل بالنسبة لهم هي الضامن الأوحد للحد من انتشار المرض وخروج الأوضاع عن السيطرة.

عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة