محنة العلاقات الإنسانية في زمان الثورة
من علامات التطرّف عندي؛ أن يجعل الإنسان علاقاته الاجتماعية عُرضة للبيع في سوق الولاء السياسي والفكري، فيستبرئ من أقارب أو أصدقاء أو معارف يخالفونه، لإثبات إخلاصه لفكرة أو شخصية أو كيان، معتقدًا أن في ذلك توجّهًا محمودًا نحو ما/من يُحب.
وقد ظننت أن السودانيين محصّنون من نوع التطرّف هذا؛ لما عُرفوا به من وفاء وتقدير للروابط الاجتماعية، غير أن تداعيات الثورة الحديثة (ديسمبر 2018م) خيّبت ظني.
فقد رأيت صداقات تتهاوى وأرحام تتنابذ وزمالات تتفكك تحت رايات “الثورة والثورة المضادة” كما يقولون، بل إن هناك من تجرّأ على طرح مبادرة تدعو إلى مقاطعة اجتماعية على مستوى الأقارب والمعارف لمن يعتقدون أنه خصم للثورة، وهناك من استجاب!
وقد حسبت تلك المبادرة فورة عمياء لحظة الثورة، لكن حوارات الأسافير ومنشوراتها ما زالت تضج بهذا النوع من التطرف رغم مرور عام كان كافيًا لشفاء ما في الصدور وإزالة الغشاوة عن البصائر والقلوب. فما الذي حدث؟
لا أعرف، لكنه تطوّر خطير يستدعي من أهل الاختصاص البحث والدراسة، أو يستدعي منهم تبصيرًا وتنويرًا إن كانوا رصدوا ظواهر مثل هذه في أوقات سابقة.
وعلى كل حال، العاقل عندي هو من يضع قبّعته ورايته عندما يجالس قريبًا أو صديقًا أو جارًا أو زميلًا، وكذلك عندما يمرّ بآرائهم على الأسافير في قضايا خلافية؛ لأن في بقية الناس والمنابر متّسع للمعارك والمساجلات.
أقول هذا رغم أن للبشرية تاريخ متقادم في احترام الروابط الاجتماعية، إذ توارثت المجتمعات عن أسلافها أن كل مخالطة إنسانية تحتّم على المنخرط فيها التزامات أدبية في سبيل الوفاء لتلك المخالطة، سواء كانت قرابة أو معاشرة أو معرفة عابرة.
حتى أنهم جعلوا أمرًا بسيطًا مثل أكل الزاد سببًا كافيًا لحرمة دم وسرّ وسيرة المُضيف لدى الضيف، وأصبح رفض الزاد من علامات إضمار الشر في كثير من المجتمعات إلى يومنا هذا،
وقد أورد بعض المفسرين أن هذا الاعتقاد العُرفي كان سبب توجّس إبراهيم (عليه السلام) من عابري السبيل الذين لم يأكلوا ذبيحته. (فلما رأىٰ أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ۚ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلىٰ قوم لوط).[هود: 70]. فكيف بمن تغذّو من حبل سُرّي واحد وجمعتهم أعمال ومساكن ومصاهرات؟
يبدو أن للمجتمعات المُعولَمة الجديدة رأي آخر يشذ عن رأي أسلافها!
Ziryab Elsiddig