زيادة أجور الخدمة المدنية: إجراء اقتصادي أم رشوة سياسية؟
سأحاول في هذا المقال القصير، التوضيح بأن القرار الأخير لزيادة أجور العاملين بالخدمة المدنية، رغم شرعيته التي لا شك فيها، من شأنه أن يتسبب في آثار اقتصادية ضارة على غالبية السكان. ذلك أن هذا القرار لم يتخذ ضمن حزمة تنمية اقتصادية القصد منها تحسين معيشة معظم السودانيين. وسنشرح هذه الحجة في نقطتين:
١- عدد موظفي الخدمة المدنية من إجمالي العاملين:
لبيان هذه النقطة، سوف أعرض أرقاما مستمدة من الجدولين رقم 4.2 و 4.5 من آخر مسح لقوة العمل السودانية لعام 2013 (وزارة تنمية الموارد البشرية والعمل ومنظمة العمل الدولية). ولقد أشرت في بحث آخر إلى أن هذا المسح تعتريه بعض الهنات المنهجية، ولكنه الوحيد المتاح بين أيدينا.
بنهاية عام 2011 (وقت المسح)، شكل جميع العاملون بأجر نسبة 42% من إجمالي القوي العاملة (تتألف القوى العاملة للبلاد من إجمالي العاملين بالإضافة إلى العاطلين عن العمل)، في حين شكل العاملون لحسابهم الخاص 39.2%، والعمالة الأسرية بدون أجر 12.1%، وأصحاب الأعمال 5.7% وغيرهم 1.1% من إجمالي العاملين.
أما موظفو الخدمة المدنية فلم يشكلوا سوى 6.8% من جميع العاملين بأجر و 2.8% من إجمالي العاملين في الدولة. بعبارة أخرى، هناك 93.2% من العاملين بأجر و 97.2% من إجمالي العاملين، بالإضافة إلى جيش جرار من العاطلين عن العمل خارج الخدمة المدنية، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات لتحسين معيشتهم.
٢- التبعات المترتبة على ارتفاع الأجور:
يُتخذ قرار رفع مستوى أجور موظفي الخدمة المدنية في ظل ندرة شديدة لمعظم السلع التي تشكل عصب حياة هؤلاء الموظفين، بل وغالبية السكان. ومن المعروف أن زيادة عرض النقود في ظل تقييد تدفق السلع من شأنه أن يفضي إلى زيادة الأسعار عموما (وليس فقط السلع التي يشتريها الموظفون المدنيون). يحدث ذلك في وقت يشهد تصاعدا في التضخم بشكل ملحوظ، ما يعني أن هذا المصدر الجديد للتضخم قد يستهلك جزءًا كبيرا من الأجر الجديد لموظفي الخدمة المدنية بعد الزيادة، ناهيك عن تأثير ذلك علي ال 97.2 % من العاملين الآخرين (وبقية السكان)الذين ستزداد معيشتهم سوءا على ماهي عليه.
لعله من باب المغالاة أن نفترض أن الزيادة في أجور موظفي الخدمة المدنية ستؤدي إلى زيادة في أجور العاملين في القطاع الخاص، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: ليس في مقدور العاملين في القطاع الخاص ترك وظائفهم أو التهديد بتركها للانضمام إلى الخدمة المدنية، ولأن الخدمة المدنية ببساطة، لا تتوسع.
ثانياً: كان عدد العاطلين عن العمل في المناطق الحضرية (مع إن نسبة كبيرة منهم من الشرائح الأكثر تعليماً) ضعف عدد جميع موظفي الخدمة المدنية (الجدولان 4.5 و 5.4 في المسح)، ومن المتوقع أن يكون عدد العاطلين عن العمل قد شهد ارتفاعا منذ إجراء المسح. يعني هذا أن القطاع الخاص لن يفتقر إلى العمالة في حالة تخلي البعض عنه، ولن يكون هناك أي ضغوط لزيادة مستوى الأجور.
ثالثًا: حتى لو افترضنا حدوث زيادة ما في أجور القطاع الخاص، فإن هذا لن يؤدي إلا إلى زيادة أسعار المنتجات والخدمات من قبل أصحاب الأعمال، وبالتالي زيادة الضغوط التضخمية. كما لا يمكننا أن نفترض نموا في الإنتاجية، ما قد يساعد في استقرار التكلفة أو تقليلها، حيث لا توجد مؤشرات على الإطلاق لتحسن في مستويات التكنولوجيا والمهارات أوإمدادات الكهرباء، إلخ.
ملاحظة ختامية:
ظل مستوى أجور الخدمة المدنية دون تغيير لفترة طويلة، ومن العدالة التفكير في مراجعته. مع ذلك فإن من شأن زيادة هذه الأجور في ظل تضخم عصي على السيطرة وتدهور في قاعدة ومستوى الإنتاج المحلي، أن تشكل مصدرًا آخر لمزيد من التدهور في معيشة الناس.
ربما كان لوزير المالية والتخطيط الاقتصادي ومستشاريه أسباب سياسية تجعلهم يتجاهلون- للأسف – المصلحة الاقتصادية للجماهير.
عباس عبد الكريم
الراكوبة