العلم يرفع والجهل يهدم
استوقفتني التدوينة المتداولة بكثافة اسفيريا لعضو مجلس السيادة التعايشي، ويقول التعايشي (تقرأ تعيشي على لسان قبيلة التعايشة التي ينحدر منها خليفة المهدي).. (يالها من مصادفة !! زميلتي في الابتدائي قبل ٣٠عام وجدتها في منطقة الكركر في حدودنا مع افريقيا الوسطي، تعمل بائعة للشاي.. التعليم مفتاح التنمية والنهضة)، وأكثر ما استوقفني فى التدوينة خاتمتها (التعليم مفتاح التنمية والنهضة)، وقد صدق فهاهو الذي واصل تعليمه الى اعلى مدارجه يتسنم مقعده بمجلس رأس الدولة، بينما زميلته التي توقف حظها فى التعليم فى أول سلمه تعمل بائعة شاي، وقد قالها أمير الشعراء أحمد شوقي قبل زمان طويل (العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف)..
لاشك أن ظروف قاهرة حالت دون اكمال زميلة التعايشي لتعليمها واجبرتها لمغادرة مقاعد الدرس لامتهان بيع الشاي كحال العديد من المكافحات فى زمان اللفح التدميري الذي طال حتى التعليم فخصخصه وجعله سلعة للمقتدرين وجيره لصالح ايدلوجيته الاحادية فدمره تدميرا، والمفارقة أن غالب من فعلوا ذلك بالتعليم من قيادات العهد المخلوع ممن أصبحوا بعد انقلابهم المشؤوم من ذوي الحظوة والمكانة والسلطة والثروة، وهم الذين عاشوا حياة البؤس والفقر والتعاسة، وخرجوا من أصلاب آباء فقراء ومن بيوت الطين والجالوص والزبالة، ودرادر القش ورواكيب القصب وجريد النخل، وخيم السعف والشعر والجلود.
لو كان هؤلاء عاشوا في زمن كان فيه التعليم مثله مثل أي سلعة كمالية غالي الثمن وباهظ الكلفة، كما كان حاله طوال حقبتهم الكالحة، هل كانوا سيكونون شيئا مذكورا، الاجابة التلقائية والمنطقية تقول وبواقع حالهم ذاك أنهم لن يكونوا سوى أميين لا يفكون الخط، أو فاقد تربوي ضاعت طفولته ولم يجد لنفسه أي مستقبل غير أن يمارس الأعمال الشاقة والهامشية، أو شماشة يهيمون في الشوارع يستنشقون البنزين والسلسيون، ويقتاتون من فضلات الكوش ويقضون حاجتهم وليلتهم داخل المجاري..هذا السؤال ظل يلح على خاطري مع أي ذكر للتعليم، ودائما ما كنت أجيب عنه بالاجابة الطبيعية والتلقائية التي لا يقبل غيرها، ثم أتعجب واستنكر، لماذا لم يسأل هؤلاء أنفسهم هذا السؤال، هل تراهم نسوا ماضي فقرهم وشظفهم وتنكروا له، بعد أن قفزوا من حياة البؤس والشقاء الى مراقي العائلات المخملية والناس (النقاوة) والمجتمعات الارستقراطية، فأصبحوا يصطافون ويتعالجون خارج البلاد، ويعلمون أبناءهم في مدارس الاتحاد وكمبوني وسان فرانسيس، وجامعات كيمبردج وكينجز كولدج وهارفارد والسوربون وغيرها من أرقى جامعات العالم، ولم يبق في مخيلتهم ما يربطهم بماضيهم الحزين الذي ركلوه ومسحوه من تلافيف الذاكرة، ولسان حالهم يقول (الله يقطع الفقر والفقراء وسنينهم)، ونستطيع أن نؤكد بكل ثقة ويقين أن هذا هو ما صار اليه حالهم، فلا شيء يخفى على الناس في السودان، بينما لا يستطيع الفقراء الحاق أبنائهم حتى بمدارس الميري على علاتها وما تعانيه من فقر مثلهم في كل مطلوبات العملية التعليمية في حدها الأدنى..وزميلة التعايشي بائعة الشاي ليست سوى واحدة من ضحايا النظام البائد..
حيدر المكاشفي
الجريدة