تحقيقات وتقارير

عودة الصحافة الورقية .. ألغام مزروعة في أولى عتبات الخروج من (الحبس)


لم يكن قراء الصحف الورقية في السودان يتوقعون يوماً تغيب فيه رائحة (الجرائد) المميزة عن أرفف المكتبات، ولم يكن أكثر المتشائمين يتخيل أن تغدو الحياة بلا صحيفة يتخطفها الناس بين أياديهم.

كانت شوارع العاصمة الخرطوم وبقية المدن طيلة أيام الحظر الصحي ، بلا (حفيف) للأوراق، ولا يجد همس الجرائد وشغبها المعهود مدخلاً لبيوت السودانيين لممارسة تلك المؤانسة القديمة، أو إحالة (وحشة) الحجر المنزلي لإلفة تصنعها الأوراق المملوءة بزخم السياسة والثقافة والفن والرياضة. وظلت الصحف ترفض أن تكون كغيرها من السلع التجارية، لا تغيب مهما اشتدت وطأة الظروف الاقتصادية، ولا تحتجب عن الصدور إلا عندما يقع عليها أمر الحكام والطغاة، لأن الذي بينها وبين القارئ مثل ميقات مقدس، واجب الالتزام ولا يقبل الاعتذار، إلا أنها مؤخراً طالها الغياب القسري عندما أضطر (خبازيها) للغياب بسبب الطوارئ الصحية العالمية، وهو ما جعلهم يفترشون الأسافير بديلاً عن الورق الصديق. وهاهي تتأهب للعودة مجدداً على سطوح الورق بعد قرار رفع الحظر الصحي، لكنها تجد نفسها مضطرة هذه المرة لصراع البقاء بين أدغال الأوضاع الاقتصادية الشائكة والتي بإمكانها إلتهام الأخضر واليابس.

ورطة الناشرون

بعد تشاور كثيف بين الناشرين للصحف في ما يتعلق بترتيبات العودة للطباعة الورقية، قرر ناشرو الصحف السودانية، رفع قيمة بيع الصحيفة إلى 45 جنيهاً وزيادة الاعلانات بنسبة 100% بينما أعلنت صحف سودانية توقفها عن الصدور. وبرر الناشرون الزيادة الجديدة في سعر النسخة الورقية والاعلانات للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد وارتفاع سعر الصرف للدولار مقابل الجنيه السوداني، وقالت صحيفة (التيار) الإلتكترونية، اجتمع ناشرو الصحف السودانية الورقية مساء أمس وتداولوا حول الأوضاع الاقتصادية التي تؤثر على مسار الصحافة الورقية نسبة لارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه السوداني، وبعد مراجعة التكلفة الآن والتي يتوقع أن ترتفع بصورة مضطردة، قرر الناشرون رفع قيمة النسخة الورقية إلى 45 جنيهاً وزيادة الإعلان بنسة 100%.

وبحسب ما نقلت الصحيفة فإن السعر الجديد سيكون في حدود التكلفة للمحافظة فقط على شريان للحياة وحتى لا تختنق الصحافة السودانية وتضطر للتوقف نهائياً. وقالت الصحيفة أنه على الرغم من اتفاق الناشرين على زيادة أسعار الصحف لتغطية تكاليف الطباعة، إلا أن بعض ناشري الصحف أعلنوا بصورة قاطعة عدم قدرتهم على الاستمرار وستتوقف بعض الصحف عن الصدور. واعتبر البعض قرار الزيادة سيكون بمثابة المسمار الأخير على نعش الصحافة السودانية التي تواجه كساداً وتراجعاً غير مسبوق خلال الفترة الماضية مع ارتفاع تكلفة الانتاج والتشغيل ومدخلات الطباعة ومنافسة الوسائط الإلكترونية لها.

تحديات ماثلة

في سبتمبر من العام المنصرم، أجرت صحيفة (اندبيندنت عربية) الإلكترونية، حواراً مع الناشر والكاتب الصحافي عثمان ميرغني عن مجمل أوضاع الصحافة الورقية في السودان، وكان عثمان ميرغني يبدي تفاؤلاً بمستقبل الصحافة الورقية واستمراريتها لعقد من الزمن، نظراً إلى ارتباط القارئ السوداني بها ارتباطاً قوياً لمصداقيتها العالية، على الرغم من ارتفاع أسعارها.

ووقتها قال ميرغني بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير، يرى ميرغني أن الصحافة الآن تتمتع بتوفر الحريات العامة بصورة كبيرة وسقطت دولة اللاقانون “ولم يعد للجهاز الأمني سلطة علينا، واختفى التهديد الذي كان يُمارس بحق الصحافة والصحافيين بصورة مستمرة، فالبيئة مواكبة، إلاّ أنّها تعاني من المشكلة الاقتصادية المتمثلة في ارتفاع تكاليف الصناعة عموماً”. ويوضح أنّ “تكلفة النسخة المباشرة كطباعة تبلغ نحو عشرة جنيهات سودانية وتباع بـ 15 جنيهاً (30 سنتاً)، وهناك تكاليف أخرى تتعلق بأجور العاملين وبدل الإيجار والمصاريف اليومية. فالتكاليف عالية جداً، وفي حال بقاء نسخة واحدة، تلغي قرابة 30 نسخة مُباعة، وبالتالي الخسارة موجودة وبشكل كبير”. أما الإعلان، فقيمته متدنية جداً على الرغم من أنه يتحمل كامل التكاليف، لكن في العادة لا يدفع فوراً ولا يسهم بصورة سريعة في سد النقص ولذلك دائماً يكون لدينا عجز في الطباعة. ويرى ميرغني أن القارئ السوداني لا زال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالصحافة الورقية، إذ تصدر في الخرطوم 15 صحيفة سياسية يومية تطبع 115 ألف نسخة من دون أن يكون هناك رجيع يُذكر.

ويضيف عثمان ميرغني “هذا الارتباط يعود إلى مصداقية الصحف، فالقارئ السوداني يعتقد أن مصداقية ما يُكتب في هذه الصحف عالية جداً، والعكس تماماً بالنسبة إلى الوسائط الإلكترونية، التي تعتمد كلياً على الصحف وتنقل كل ما يُكتب في الصحف الورقية منها. لذلك، أعتقد أنه ما زالت هناك فرصة لهذه الصحف كي تستمر على الأقل إلى عقد من الزمن على أن تتكامل مع الصحف الإلكترونية والفضائيات، وستستمر بالقوة ذاتها، والدليل على ذلك أنه على الرغم من زيادة أسعارها، التي تُعتبر عالية جداً وغير منطقية، سُجّلت زيادة في التوزيع بنسبة 100 في المئة”.

صناعة الصحف

كتبت الباحثة العربية في مجال الإعلام والتنمية ، ندى أمين ، تقريراً استقصائياً عن التحديات التي تعترض طريق صناعة الصحافة الورقية في السودان تحديداً ، نشر في العام 2017 في (الجزيرة نت)، وقالت في السودان مثلا؛ يشير التقرير السنوي عن طباعة وتوزيع الصحف لعام 2016 الصادر عن المجلس القومي للصحافة والمطبوعات بالسودان، إلى انخفاض واضح في الكمية المطبوعة والموزعة للصحف السودانية بتخصصاتها المختلفة، من صحف يومية ورياضية واجتماعية، والتي وصلت في مجملها إلى 44 صحيفة.

وقد ذكر التقرير أن هذا الانخفاض يسير بصورة تصاعدية منذ عام 2012 بنسبة وصلت إلى 21% بين عامي 2015 و2016 وحدهما. وبالتركيز أكثر على الصحف اليومية البالغ عددها 25 صحيفة؛ يشير التقرير إلى أنه تم توزيع 36 ألف نسخة يوميا عام 2016 مقارنة بما يقارب 45 ألف نسخة في 2015. ويمثل هذا معدل قراءة يومية يعادل 11 نسخة لكل ألف من السكان في عام 2015، مقارنة بمعدل قراءة يومية يعادل نسختين لكل ألف من السكان في 2016. وهذا يعد مؤشرا واضحا على محدودية توزيع الصحف التي ما زالت تصل إلى جماهير منتقاة.

فالمعيار المطلوب من منظمة اليونسكو بشأن التوزيع اليومي للصحف هو 100 نسخة لكل ألف من السكان. هذا مع الوضع في الاعتبار أن أرقام القراءة عادة ما تكون أعلى من أرقام التوزيع، لأن النسخة الورقية الواحدة يقرأها غالبا أكثر من شخص واحد. وأضافت الباحثة ندى، لا بد من الوضع في الاعتبار أن الإعلام في جوهره هو مشروع تجاري، بمعنى أنه صناعة لها متطلبات للإنتاج وتحتاج إلى تسويق ومستهلكين حتى تستمر وتبقى على قيد الحياة.

والواقع يعكس معاناة معظم المؤسسات الإعلامية بالبلدان العربية من أزمات اقتصادية تهدد استمراريتها، وقد زادت حدتها جراء حالة عدم الاستقرار السياسي في دول عديدة. وبالإضافة إلى ذلك؛ تشكل المعدلات المنخفضة للناتج القومي ومستوى المعيشة ودخل الفرد ونسبة التعليم عوامل تحدّ بدرجة كبيرة من عوائد الإعلان في وسائل الإعلام. ولذلك لا بد -في ظل مناخ اقتصادي هش ومضطرب وسوق إعلانية ضئيلة- من أن يفتقر الإعلام إلى مداخيل حقيقية تمكنه من النمو والازدهار بشكل مستقل بعيدا عن السلطة الحاكمة. ورغم الانخفاض المتسارع في مقروئية الصحف في السودان مثلا إلا أنه يعد معقولا مقارنة بدول أخرى؛ فالكثير من الصحف في مختلف بلدان العالم وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة الضغوط المالية الناتجة عن انخفاض مبيعات التوزيع وعوائد الإعلانات. ويحدث هذا في دول عربية عرفت بريادتها وعراقتها في المجال الإعلامي بصفة عامة والحقل الصحفي بصفة خاصة، مثل مصر ولبنان.

الأجور والإلكتروني

يجرأ كثير من الصحافيين السودانيين بالشكوى من تدني الأجور في المؤسسات الصحفية، وعلى الرغم من تفهم الناشرين لذلك الأمر في كثير من الأحايين، إلا أن زيادة الأجور في ظل ما تتعرض له الصحافة الورقية من هزات عنيفة بسبب الأوضاع الاقتصادية يجعل الخلافات واردة بين الناشرين والصحافيين، خصوصاً في ظل المحاولات الحكومية لرفع الأجور في القطاع الحكومي.

وقد ساهم ازدهار الإعلام الإلكتروني وبروزه كبديل للصحافة الورقية مهدداً كبيراً للصحافة الورقية واستمرارها، خصوصاً وأن التقنيات الحديثة وانتشار الإنترنت وسرعته ونمط الحياة السريع ، حسبما يرى كثير من خبراء الصحافة والإعلام هو ما جعل الجمهور يبحث عن الأخبار المختصرة والسريعة مما أدى إلى ازدهار النشر الإلكتروني، وتحول المعلنين إليه لانخفاض قيمة إعلاناته مقارنة بتكلفة الإعلان في الصحف المطبوعة.

ولكن مع الإقرار بنمو الإعلانات على المواقع الإلكترونية بشكل مطرد؛ فإن المشكلة -التي يواجهها النشر الإلكتروني- هي أن الإعلان على شبكة الإنترنت أرخص بكثير مما هو عليه في النسخ المطبوعة. وبالتالي، فإن إيرادات الإعلانات بشكلها الحالي لن تتحمل تكلفة خلق مضمون جيد تحريريا وفنيا، وستكون النتيجة الحتمية الانتشار وسط قراء أكثر ولكن بإيرادات أقل.

صحيفة الجريدة