رأي ومقالات

كنا نتعاطف مع الثورة الأريترية.. نعم .. هل كنا نفهم أريتريا وأثيوبيا ؟


كنا نتعاطف مع الثورة الأريترية … نعم ..
¤ هل كنا نفهم أريتريا وأثيوبيا ؟ … لا.
☆ اليوم نعيش في السودان وفي شرق السودان واقعا تمسك فيه أريتريا بتلابيبنا نحن الذين تعاطفنا مع ثورتها منذ إنطلاقها في الفاتح من سبتمبر 1961م.
☆ كان السودان الملجأ الأقرب جغرافيا وثقافيا وإثنيا للأريتريين وعايشنا ونحن صبية صغارا وشبابا يافعا مظاهر التعاطف مع الشعب الأريتري.
☆ والملاحظ أن الشخصية السودانية والتعامل السوداني ظل متوازنا للغاية إزاء وجود الأثيوبيين والأريتريين في المدن السودانية وظلت مشاعرنا نحن السودانيين تجاه الشعبين في بلادنا مبنية على الإحترام والود بغض النظر عن تأزمات العلاقات في مستوياتها الفوقية سياسيا وأمنيا.
☆ ولكن مع كل ذلك التعاطف يحق لنا الآن أن نتساءل : هل كنا على المستوى العادي نفهم أثيوبيا أو أريتريا ؟
☆ إجابتي بكل تأكيد وباختصار شديد : لا.
☆ أثيوبيا تشكيلة من القوميات واللغات والثقافات والأديان تم تجميعها بقوة الحديد والنار من ممالك وسلطنات مستقلة بدءا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وهذا التجميع تم تحقيقا لأحلام تاريخية ظل ملوك الحبشة يؤمنون بها وهي أحلام إستعادة السيادة التاريخية على أراض وامتدادات جغرافية شاسعة ظلوا يؤمنون أنها كانت ملكهم ذات تاريخ غابر ولا بد لها أن تعود كما كانت.
☆ وهذا الحلم والإيمان بضرورة تحقيقه مرتبط ليس فقط بالسيادة على الأرض بل بسيادة دين على بقية الأديان.
☆ إن مأساة أفريقيا وسبب غالبية الحروب الأهلية في جمهوريات أفريقيا في القرن ال 20 وحتى اليوم هي الرغبة والطموح في إستعادة الممالك التاريخية سواء ممالك التاريخ الغابر أو ممالك ما قبل الاستعمار الأوروبي وهو الطموح الذي يصطدم بما نص عليه ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية بإحترام الحدود السياسية لدول أفريقيا كما رسمتها الدول الأوروبية التي إستعمرت كل أفريقيا.
☆ ولكن التوسع الحبشي الناجح نوعا ما بدءا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر نجح لأسباب وعوامل من أهمها التعاطف الأوروبي المرتبط بالدين وهو تعاطف نتج عنه دعم بالمال والسلاح والمستشارين مما حول الحبشة في زمن منليك ( بدأ منليك حملاته التوسعية منذ أن كان ملكا (نقس) على مقاطعة شوا من 1866م حتى 1889م ثم ملك ملوك الحبشة (نقس نقستا ) من 1889 بعد مقتل يوهانس في المتمة حتى وفاته في 1913م.) إلى قوة عسكرية ضاربة غير تلك الحبشة التي إنتصر عليها الخليفة عبد الله التعايشي في القلابات حين قتل إمبراطورها يوهانس (يوحنا) سنة 1889م.
☆ وبعد أن أكملت الحبشة توسعها الحالي بقوة الحديد والنار ومدافع المكسيم التي كان منليك أول زعيم أفريقي يتملكها وأباد بها عشرات الآلاف من مختلف الشعوب وقامت لاحقا في 1945م بتغيير إسمها إلى أثيوبيا جاء ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية ومقرها أديس أبابا ليكرس ويقنن مكاسب التوسع الأثيوبي مع تجاهل تام لحقيقة أن ذلك التوسع بقوة الحديد والنار كان إستعمارا أفريقيا داخليا لا يختلف عن الإستعمارات الأوروبية لبقية القارة وأن ذلك التوسع شكل دولة تعاني قومياتها من الطبقيات والتهميش ومرارات ذكريات الوقائع.
☆ في إطار إعتقاد الحق التاريخي ظلت الصفوة الحاكمة في أثيوبيا لا تعترف بأريتريا بلدا مستقلا ولا تعترف بإتفاقية الحدود التي وقعها منليك مع الإيطاليين أثناء إستعمارهم لأريتريا وهي إتفاقية تم توقيعها وياللعجب بعد الإنتصار الكاسح الذي حققه منليك ضد الإيطاليين في معركة عدوة التاريخية سنة 1896م وهي معركة تحتفل بها أثيوبيا سنويا ، ومازال القوميون الأثيوبيون ساخطين حتى اليوم على منليك لماذا لم يتقدم بعد انتصاره في معركة عدوة نحو العاصمة أسمرا ليسيطر عليها ويسترد أريتريا وكان سيجد تأييدا واعترافا من دول أوروبا مثل روسيا وفرنسا وغيرها.
☆ والعجيب أن منليك الذي وقع اتفاق الحدود بين الحبشة ومستعمرة إيطاليا في أريتريا كان هو نفسه الذي احتج على قيام الإيطاليين بتسليم كسلا للقوات البريطانية سنة 1896م باعتبار أن كسلا والتاكا أرض تابعة للحبشة التاريخية التي تمتد في نظر أباطرة الحبشة حتى النيل الأبيض غربا ومقرن نهر عطبرة مع النيل شمالا أي أنها تشمل الخرطوم وكامل إقليم الجزيرة.
☆ من هذا المنطلق جاء قرار هيلاسيلاسي بإلغاء الفيدرالية والحكم الذاتي وضم أريتريا لأثيوبيا ووفقا لفهمهم التاريخي فإن ذلك القرار كان تصحيحا للتقصير الذي حدث من منليك عقب معركة عدوة 1896م.
☆ وفي 1 سبتمبر 1961م أطلق حامد إدريس عواتي طلقة الثورة الأريترية لكنها كانت ثورة في بلد يحمل في داخله ثنائية مسيحية وإسلامية وتعددات عرقية وقبائلية كان حتما أن تؤثر في مسيرة ذلك الكفاح فهل كنا نحن على مستوى المواطن العادي خاصة هنا في وسط السودان نفهم تلك الخارطة وتداخلاتها في بعدها الإسلامي مع شرق السودان وتداخلها وتماهيها في بعدها المسيحي مع أثيوبيا ؟
☆ وتطور الإستقطاب الثنائي الحاد داخل المجتمع الأريتري وداخل الثورة الأريترية حتى إنفجر حربا أهلية في 1982م كان الدعم فيه متواصلا عبر ضفتي نهر مأرب لأحد طرفي النزاع وربما كانت الخسائر البشرية والمادية لتلك المواجهات البينية أنكى من تلك التي كانت مع العدو المشترك ظاهريا لا حقيقة وجوهرا.
☆ إنك لن تستطيع إدراك حدة الإستقطاب الديني والثقافي في أريتريا إلا إذا قرأت مثلا ما دار حول اللغة الرسمية ووضع اللغة العربية من مداولات داخل برلمان الحكم الذاتي وكيف استمات النواب المسيحيين في محاولاتهم فرض لغتي التقرنجية (لغة التيجراي ) والتقرية (لغة البني عامر والحباب وغيرهم ) وإبعاد اللغة العربية.
☆ أما التاكا وكسلا والشرق وغيرهم فالأحلام التاريخية باستردادهم لا تتغير من الأصيل من زمن الأباطرة إنتهاءا بالوكيل الذي هو ليس إلا نسخة مموهة للأصيل وإمتدادا باطنيا له.
☆ الإكتشافات والتعارف :الإنترنت والإعلام الحر والتاريخ المخفي ..
يمكننا الزعم أن ثورة المعلومات وعصر الإنترنت هي التي لعبت الدور الأعظم في إكتشاف الناس وتعارفهم ببعضهم داخل الوطن وعبر الحدود برغم ما في هذا الفضاء الإسفيري من غثاء وشذوذ وخطل إلا أنه لا يخلو من الجديد الجيد والمفيد ، فقد أتاح زمن الإعلام الحر للأفراد والجماعات التخاطب المباشر نحو العالم ، وبدأت جماعات المعارضة المسلحة أو السياسية في مختلف البلدان تعرض شكاويها ومآسيها وظلاماتها.
☆ وأفادت ثورة المعلومات في خروج التاريخ الذي لا يدرس في المقررات الدراسية في مختلف البلدان ولذلك تجد السؤل المنتشر في الأسافير من مختلف البلدان : لماذا لم ندرس هذه الوقائع في مقرر التاريخ في المدرسة ؟
لماذا ظل تاريخ الحبشة وتوسعاتها وتشكيل أثيوبيا الحالية غير مضمنا في مقرراتنا المدرسية بالرغم من أهميته في تشكيل الوعي وهي جارنا الحيطة بالحيطة في حين ظللنا ندرس بتوسع شديد جغرافيا الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وتاريخ أوروبا وحروبها وبسمارك وسياسته الداخلية والخارجية ؟
على العموم وحتى لا نطيل يبدو أن قادم الأيام سيكون حافلا بالتطورات وربنا يحفظ هذا البلد وأهله الطيبين وأن يمكر لهم وهو خير الماكرين.
👓 كمال حامد.