رأي ومقالات

إهمال السودان وأزماته ومخاطر تقسيم جديد

أظهرت الفيضانات التي اجتاحت السودان، أخيرا، أزمة مركّبة على صعيد التغطية المهنية والتعاطف الوجداني والإنساني المفقود من المجتمع الدولي، فلم تبدِ وسائل إعلامية عديدة اهتماماً عميقاً بشأن الكارثة، ولم تكترث أعداد ضخمة من المدونين والكتّاب والعاملين في الرأي والشأن العام بها. ربما تنحصر القضايا الأكثر سخونةً في ملفات الحرب في اليمن وليبيا، والصراع على الغاز في المتوسط، وتعتبر لوسائل إعلام عديدة أولوية أكثر أهمية من فيضانات السودان، وربما تبحث تلك القنوات عمّا يبرر تغطيتها، كربطها بملف السدود في دول الجوار، خصوصا مصر وإثيوبيا حتى تتم التغطية، أو التركيز على مروياتٍ عن إمكانية تطبيع عربي جديد مع إسرائيل، تكون الخرطوم بطلتها هذه المرة.

نحتار في تفضيل وسائل الإعلام الموضوعات، فالموت واحد، وإنْ كان الحدث السوري، وكذلك اليمني، على حالهما منذ أعوام، ويشهد الملف الليبي تطورات ساخنة، كحال ما تعيشه تونس حالياً من تغيرات، لكن السودان، على الرغم من فقره وندرة توظيف موارده الهائلة في خدمة المجتمع المحلي، كابد على جراحه، واستقبل مئات الآلاف الفارّين من جحيم الحروب من سورية واليمن وليبيا، يستحق أن ينال من الاهتمام والرعاية والدعم كما باقي الدول.
والثابت في كل دولة أن الأزمات تظهر مكامن القوة الحقيقية للسلطات والمجتمعات، لكن المؤسف أن عقودا طويلة لم تدفع الحكومات العربية إلى استنفار مصانعها ومراكز دراساتها الصحية، لإيجاد أدواتٍ مناسبةٍ لتجاوز المحن الطارئة. عوضاً عن ذلك، سعت صوب إيجاد المجتمعات الانضباطية لتشديد آليات حصار النشطاء وأصحاب الآراء، وبقيت الشعوب مبتلاةً بآفاتٍ ليس لها حلول من دون تغيرات جذرية، كحال السودان الذي أظهرت الفيضانات هشاشة البنية التحتية فيه، وافتقاده الخدمات والمرافق العامة في حالات كهذه لإنقاذ الأهالي. “الحيرة تأكل أصحابها” هكذا تقول الأمثال الشعبية. حيرة عدم وجود السدود الكافية التي من شأنها حماية البلاد من الغرق. جمهورية تحتوي على عشرات الأنهار روافد للنيل الذي يصب في مجراه النيل الأبيض والنيل الأزرق، عدا عن بحيراتٍ وأنهارٍ أخرى، لا سدود ولا صمود للبنية التحتية للبلاد. ولكن لا غرابة في ذلك، إن عرفنا أن السودانيين أيضاً أهينوا كسائر شعوب المنطقة بأنظمة تافهة ومهملة لشعبها ومطالبه، فلو أحصيت خيرات السودان وحدها واستثمرت لكفت دولا عربية عديدة بوارداتها، لكن النهب والسرقة، وأولويات القمع والتنكيل، أفقدت السودان والسودانيين متعة الحياة وترفها.

الفساد واللامساواة وغياب نظام حكم عادل دفعت جنوب السودان صوب الاستقلال عن السودان، ليُنهي بذلك حقبة من الصراع بين الأطراف والشرائح المجتمعية المختلفة إثنياً

ثمة استغرابٌ آخر: لماذا حظي لبنان، بعد تفجير مرفأ بيروت بتعاطف شعبي عميق على وسائل التواصل الاجتماعي، لم ينل مقاديره السودانيون مع حدوث الفيضانات. .. ما حصل في لبنان كارثة مركبة، كارثة النظام السياسي المستمتع بفقدان لبنانيين حياتهم وأرزاقهم، إضافة إلى أن البلد وناسه في بؤسٍ سياسيٍّ وماليٍّ ومعيشي، ويجوز أن يُعاد التفجير ثانية في مكان بالقرب من التفجير الأول، هكذا وباعتيادية كبيرة، من دون أيّ استغراب، من جهة، ومن جهة تالية كارثة تحويل لبنان إلى حقل تجارب وتصفية حسابات مع الخصوم خارج نطاق الدولة والجغرافيا اللبنانية، ما شهده لبنان كارثة حقيقية وفق المنظور السياسي والإنساني والطبيعي. لكن السودان أيضاً يعيش حالةً مشابهة، ففي لبنان ثمّة أيادٍ تعبث بالأمن المجتمعي، والتفجير إن لم يكن من فعل فاعل، فإنه بسبب الاستهزاء بالذات البشرية، وعدم الاكتراث بحيوات مئات الآلاف ومصائرهم. أما ما جرى في السودان فكارثة طبيعية. وجدت الطبيعة نفسها مرتاحة في القصاص، وفعل ما تريده، فلا موانع بشرية أو مخطّطات حكومية أمامها لتمنعها من الاستمرار في سحق المدن، بما تحملها من ذاكرة مجتمعية. لا فرق بين طريقة زهق الأرواح أو التلاعب بمصيرها، هذه الحكومات والسلطات أينعت في خنق ذواتنا وحيواتنا.

المشكلة الأخرى، والتي ساهمت في عدم بلورة موقفٍ موحدٍ عبر وسائل “السوشيال ميديا”، هي هذه الأخيرة نفسها، إذ يعتبر السودان من أكثر الدول ضعفاً وقلة في الوصول الآمن والجيد إلى الإنترنت، فضعف النشاط في وسائل التواصل الإجتماعي في السودان جعل من قضيتها لا ترتقي في سلم النشر والتعميم وترويجها. ووفقا لتقرير حديث “بموقع بوابة البيانات Dataportal، فمن بين سكان السودان الذين يقارب عددهم 44 مليونا، هنالك حوالي 13.4 مليونا فقط لديهم اتصال بالإنترنت، ولا يزيد عدد من يستخدمون وسائل التواصل عن 1.3 مليون شخص، على الرغم من أن عدد من يمتلكون الهواتف 32.8 مليونا”. من دون نسيان أن العقوبات الأميركية ساهمت في ضعف أداء العصر الرقمي في السودان، على الرغم من الرفع الجزئي لهذه العقوبات.

السودان أمام مرحلةٍ مفصليةٍ جديدةٍ، تهدد جنوب كردفان والنيل الأزرق بالإنفصال

والسودانُ إذ يحلم بالسلام الدائم وإنهاء الحروب الأهلية والقطيعة بين الشرائح المجتمعية في هذه الحروب، فذلك لا يمكن أن يُبصر النور من دون تنميةٍ مستدامة، بوصفها شرطا أساسيا لتحقيق الإستقرار والتنمية المجتمعية. الفساد واللامساواة وغياب نظام حكم عادل دفعت جنوب السودان صوب الاستقلال عن السودان، ليُنهي بذلك حقبة من الصراع بين الأطراف والشرائح المجتمعية المختلفة إثنياً، فمنذ الإستقلال في العام 1956، حكمت السودان سلسلة من الحكومات البرلمانية غير المستقرة والأنظمة العسكرية السيئة، تحت حكم جعفر نميري الذي أدخل الشريعة الإسلامية إلى القضاء عام 1983، وبين عامي 1989 و2019، شهد السودان دكتاتورية بقيادة عمر البشير. وأدّى ذلك إلى تفاقم الخلاف بين الشمال الإسلامي (مقر الحكومة) والمسيحيين وغيرهم في الجنوب، وتسبّبت الاختلافات في اللغة والدين والسلطة السياسية في حرب أهلية بين القوات الحكومية، المتأثرة بشدة بالجبهة الإسلامية الوطنية، والمعارضين الجنوبيين الذين كان فصيلهم الأكثر نفوذاً هو جيش التحرير الشعبي السوداني، وأدّى ذلك، في نهاية المطاف، إلى استقلال جنوب السودان عام 2011.

ثلاثة أحداث قريبة من بعضها بعضا، تؤثر مباشرة على مستقبل السودانيين ومعيشتهم، وفق الربط البيني والبنيوي بينها:

أولها: إذا كانت الفيضانات قد جرفت وهدمت 70 ألف منزل، وأثرت بشكل كبير على الإنتاج الزراعي الذي أدّى إلى تضرّر مائة ألف فدان زراعي، ونفوق آلاف المواشي، والتأثير المباشر على استخراج الذهب، والإيرادات العامة والبنى التحتية، فضلا عن أنها تمثل ضغطا جديدا على موازنة الدولة لتعويض الأسر المتضرّرة، والتي اقتربت من حاجز الـ 10 مليارات دولار.

وثانيها: المشهد السياسي ما قبل الفيضانات، كان توقيع الإتفاق الذي وصف بالتاريخي بين رئيس الحكومة السودانية، عبد الله حمدوك، وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال)، عبد العزيز الحلو، في أديس أبابا، في 3 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، شمل شكل الحكم المقبل في السودان. ومن أبرز بنود الاتفاق: “فصل الدين عن الدولة” في الدستور السوداني القادم. وفي المقابل، يحتاج السودان إلى الدعم الإعلامي والدبلوماسي والدولي والإقليمي، حيث يحتّم الإتفاق بين الطرفين تنفيذ مبدأ فصل الدين عن الدولة، وغيابه يُلزم الأطراف باحترام حق تقرير المصير.

تنتظر متاهات وعراقيل عميقة جديدة السودان، شعباً ونظاماً، لعلها، في النهاية، تفضي إلى تقلبات سياسية جديدة

وثالثها: يتجسّد الحدث الجديد حالياً بالإنقسام بين الكتل والأحزاب السودانية، ونقلها إلى الشارع وبين الأهالي، بشأن التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من اللقاءات التي جمعت الأخيرة ومجلس السيادة الانتقالي برعاية إماراتية، والتشديد الحاصل من تجمعات وأحزاب سودانية رافضة للتطبيع، تهدّد بجرّها إلى ساحة المواجهة المباشرة، رافضين مقايضة “إزالة السودان من قائمة الإرهاب مقابل السلام”. وفقاً لذلك، تنتظر متاهات وعراقيل عميقة جديدة السودان، شعباً ونظاماً، لعلها، في النهاية، تفضي إلى تقلبات سياسية جديدة، وهي الدولة المهدّدة بالتقسيمات الجغرافية الجديدة. وبذلك يكون السودان أمام مرحلةٍ مفصليةٍ جديدةٍ، تهدد جنوب كردفان والنيل الأزرق بالإنفصال وتفضيله على إعادة توحيد البلاد.

تشكل كل هذه الضغوط والعراقيل مثبطاً لأي مشروع سياسي قادم. لذا باتت أمام السودانيين، شعباً وحكومة، فرصة أخيرة: إما البقاء معاً والعمل على عقد اجتماعي جديد يصون الحرّيات الفردية والدينية والديمقراطية، والعمل على تنمية بشرية ومشاريع تنموية مستدامة، وشقلبة الوضع المعيشي والخدمي في السودان، أو أن انشطاراً جديداً في الجغرافيا البشرية والسياسية ينتظرهم.

شفان إبراهيم
العربي الجديد