رأي ومقالات

المساومات التاريخية، والتفهُم الاستراتيجي(1-2)


يكثر في الصحافة العربية المعاصرة استخدام مفردة “تفاهمات”، ويقصد بها ما يقع من مساومات واتفاقات وصفقات بين الزعماء السياسيين وقادة الفصائل والأحزاب المتصارعة، فيقال: تفاهمات سعودية/حوثية، تفاهمات بين طالبان والحكومة الأفغانية، أو تفاهمات بين حركتي حماس وفتح. اللافت أن بعض هذه “التفاهمات” (خاصة في العالم العربي) ليست سوى فرقعات إعلامية فارغة، لا تنتهي الى ما يتوقع منها من تصالح حقيقي، أو من تضامن وطني نافع؛ إذ أنها لا تعدو أن تكون تفاهمات سطحية هشة لا تبلغ درجة “التفهُم”. وهناك كما تعلم فرق بين التفهُم والتفاهم.
تقول تفاهم القوم بمعنى أنه قد أفهم بعضهم بعضا، وأوضح كل وجهة نظره للآخر. ولكن هذا وحده لا يكفي، إذ لابد للتفاهم إذا أريد له أن ينمو ويثمر من أن يؤسس على قدر من التفهُم (بضم حرف الهاء وتشديده). ولفظ “تفهُم” يقاس في اللغة العربية على وزن “تفعُل” ليشير الى صعوبة وتثاقل في الفعل، وهما صعوبة وتثاقل يحس بهما كل من يريد أن “يتفهم موقف الآخر” المخالف في الرأي أو المذهب أو الاعتقاد، وذلك لأنه سيكون مضطرا لأن يضع نفسه في مكانه، ولأن يرى الأمور من الزاوية التي يرى من خلالها؛ مع ما في ذلك من ضغط على الأعصاب، وكظم للغيظ، وتجاوز لكبرياء “الأنا”. حينئذ، وحينئذ فقط، يستطيع إنسان في هذه الجهة أن يستمع بصدق لإنسان آخر في الجهة الأخرى، وأن “يتفهم” موقفه. وقد يقودهما ذلك التفهم الى اتفاق أو اختلاف، ولكن في كلا الحالتين سيكون أي منهما قد أسس موقفه على قراءة صادقة وأمينة للآخر، دون اعتماد أعمى على قناعات مسبقة، أو تسارع الى اسقاط الاتهامات الجاهزة، والتصنيفات المعدة سلفا.
هذه العملية يعبر عنها في اللغة العربية بمفردة “التفهُم”، أما في اللغات الأوربية فيعبر عنها بمفردة “ايمباثى” (empathy)، (التي تضمها أسرة واحدة مع مفردتي سيمباثى (sympathy) أي العطف على الآخر، و” أباثى” (apathy) التي تعنى فقدان الاهتمام بالآخر. وقد صارت كثير من الدوائر السياسية تستمع الى الخبراء الاستراتيجيين ذوى المعرفة المتعمقة بعلم النفس وهم يصفون لهم ما بات يعرف عندهم بالتفهُم الاستراتيجي (strategic empathy)، حيث يكلف رئيس دولة أو حزب مبعوثا خاصا، أو مستشارا حاذقا ليتحسس له مواقف الآخرين، فيجلس معهم طويلا في لقاءات غير رسمية، يمهد لها الوسطاء والأصدقاء وشركاء المصلحة، حيث لا يكتفى المبعوث/المستشار الخاص بمجرد الاستماع لما يقوله الآخرون، أو بقراءة التقارير التي تعدها أجهزة المخابرات، وإنما يحاول أن يتداخل مع الآخرين المخالفين له، وأن يضع نفسه في مكانهم، ويحاول أن يرى الأمور من الزاوية ذاتها التي ينظرون منها، فيتفهم تماما مصدر القناعات التي ينطلقون منها، ومكمن المخاوف التي يحسون بها، وطبيعة الأمور التي تلامس الاوتار الحساسة لديهم، والأمور التي يستعدون للموت من أجلها. مثل هذا “التفهم الاستراتيجي” قد لا يقود بالضرورة الى تغيير في الاعتقادات، أو الى اتفاق تام حول كل القضايا، ولكنه سيقود الى تخفيف حدة العداوة المستحكمة، وكسر حاجز العصبية العمياء، وقد يقود الى “تفاهمات” حقيقة بعيدة الأثر، كما قاد قديما لنوع من التقارب الصيني الأمريكي في عهد الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر، وكما قاد الى التفاهم المصري الإسرائيلي في عهد الرئيسين السادات وكارتر (على ما يكون لك ولدى من تحفظات على منهجية كيسنجر أو على مواقف السادات)، وكما قاد في حالتنا السودانية الى المصالحة الوطنية عام 1977 بمساع حميدة من السيد فتح الرحمن البشير والدكتور خليل عثمان.
وإذا كانت منهجية “التفهُم الاستراتيجي” نافعة في مجال العلاقات الخارجية بين الدول، فهي قد تكون أكثر نفعا في العلاقة بين الجماعات السياسية في داخل الوطن الواحد؛ خاصة إذا وضعنا في الاعتبار ما تمر به مجتمعاتنا الافريقية والعربية من احتكاكات اثنية ومذهبية ومناطقية، حيث تتآكل الثقافة التحاورية في المجتمع، ويغيب التفهُم، وتسود سيكولوجيا الحرب، ويتحوّل كلُّ نقاشٍ، كما يقول الباحث الفلسطيني محمد بامية، “إلى معاركَ كلاميّة، ويتحوّل هدفُ كلّ مناظَرةٍ من إقناع الآخر إلى الإجهاز عليه. تصبح القناعاتُ ثابتةً، لا تزحزحُها الحقائقُ التي تعترض سبيلَها. يتخندق كلُّ طرفٍ في مكانه، ويهتمُّ بالدفاع عن المنطقة التي احتلّها في المجتمع أضعافَ ما يهتمّ بالتواصل مع مَن هو خارجها. ثم يتحوّل الاختلافُ في الرأي إلى خيانة، ويخاف الفردُ في كلّ خندقٍ من الجهر برأيٍ أكثرَ تنوّعًا من المقبول، وتَضِيقُ حدودُ الرأي المقبول ضمن كلّ طرف. تزداد وتيرةُ المزايدة في الشعارات، ولا تجد الآراءُ الواقعيّةُ طريقًا أمامها إلّا باتجاه الخروج من الحياة السياسيّة”.
لقد حاول كاتب هذه السطور في مراحل متنوعة من حياته السياسية أن “يتداخل” مع الآخر المخالف له في الرأي، كما حاول أن “يتفهم” مواقف الاخرين، مع ما في ذلك من مشقة. ويمكنني أن أشير في هذا السياق الى تجربتين كان لهما أثر كبير في توجهاتي الفكرية والسياسية. التجربة الأولى تعود الى سنواتي الدراسية الأخيرة بجامعة الخرطوم (أواخر السبعينيات من القرن الماضي)، حيث ساقتني الأقدار الى السكن في غرفة واحدة مع ثلاثة زملاء من جنوب السودان. لم يكونوا من جنوب السودان وحسب، وإنما كانوا من المحسوبين على حركة التمرد الأولى (حركة الأنانيا بقيادة جوزف لاقو)، وقد عادوا الى السودان بموجب اتفاقية أديس أبابا عام 1975، وتم قبولهم بجامعة الخرطوم بموجب “الكوتا” التي أقرتها تلك الاتفاقية. كان يشار الى الواحد منهم بعبارة “جنوبي عائد”، وكانوا، بسبب اختلاف اللغة والثقافة، يفضلون السكن مع بعضهم البعض. أما الطلاب الشماليون فكانوا يتجنبون السكن معهم للأسباب ذاتها، فيحجزون غرفهم بحيث لا يتخللهم “جنوبي”. ولما كنت متأخرا في عملية “الحجز” فلم أجد الا غرفة واحدة في داخلية الرهد (إن لم تخنى الذاكرة) يسكنها أولئك الزملاء الثلاثة، فصرت رابعهم.
لم يكن السكن “بالداخليات” جديدا على، فقد أمضيت سائر سنواتي الدراسية في السكن الداخلي “المجاني” (والفضل يعود، بعد الله، الى الشعب السوداني)، ولكنى لم أتعود على تفاصيل ثقافة أبناء الجنوب، ولم أتعرف على مزاجهم، ولم أتذوق نكاتهم وموسيقاهم. كنت أشعر بضيق حينما أحاول أن أحدثهم “بعربي جوبا” فلا يردون، وأشعر بالضيق حينما يتبادلون نكات لا أفهمها ويضحكون بأصوات عالية. ولعلهم أيضا كانوا يشعرون بالضيق حينما أضع “سجادة” للصلاة في الفراغ الوحيد المتاح في الغرفة، أو حينما يزورني بعض الأصدقاء ويجلسون بعفوية على سريري وعلى كل الأسرة التي ليست لي.
ورغم ذلك بدأت الفجوة بيننا تضيق، وبدأ كل منا رحلة “اكتشاف الآخر”. اكتشفت أنهم لا يتحدثون “عربي جوبا” ليس لأنهم يكرهون اللغة العربية، كم توهمت، ولكن لأنهم أمضوا حياتهم الدراسية لاجئين في يوغندا. واكتشفت أن منهم من هو في قيادة تنظيم الطلاب الجنوبيين بالجامعة، وأن لهم إلماما بتفاصيل السياسة في داخل الجامعة وفى خارجها، وأنهم يعرفون أنني أمثل الاتجاه الإسلامي في قيادة الطلاب. قويت علاقة الزمالة بيننا وصرنا أقرب الى حالة “التفهم” المتبادل. وحينما اقترب موعد الانتخابات العامة لاتحاد الطلاب تداولنا طويلا في امكانية الدخول في نوع من التحالف السياسيى بين الاتجاه الاسلامي والجبهة القومية الأفريقية (ANF)، وما إذا كان من الممكن أن نخوض الانتخابات بقائمة موحدة. وبعد مشاورات متتالية وافقت جماعتهم على الفكرة وعلى عدد المقاعد المقترحة، أما “جماعتنا” فترددت أولا ثم رفضت رفضا قاطعا، وذلك بحجة أن الطلاب لن يصوتوا لأعضاء “الجبهة القومية الأفريقية” في القائمة الموحدة، مما يتيح فرصة للتنظيمات السياسية الأخرى أن تخترق قائمتنا. جادلنا طويلا ضد هذه الحجة، وكان رفيقي في التفاوض الأخ سراج الدين حامد (الذي صار سفيرا فيما بعد)، ولكن محاولتنا باءت بالفشل. قال لنا زملاؤنا الجنوبيون حينما التقينا بهم في “الميدان الغربي” لنبلغهم بقرار الرفض: لقد خذلتمونا، ولكن بما أننا سياسيون فعلينا أن نتحمل.
انصرفنا عنهم وكنا أيضا نشعر بخذلان كبير. كنا نقدر أن مد الجسور مع الطلاب الجنوبيين وابرام تحالفات معهم سيكون مفيدا لنا في الاتجاه الإسلامي حتى ولو خسرنا أربعة أو خمسة من مقاعد المجلس الأربعين، كنا نحلم بنوع من “المساومة التاريخية”، كما يقال هذه الأيام، بينما كان إخواننا الآخرون لا يحلمون الا بمقاعد الاتحاد. الجدير بالذكر أنه ما أن أكمل هؤلاء الطلاب دراستهم الجامعية حتى اندلعت الحرب الأهلية الثانية بين الشمال والجنوب، فالتحقوا بالحركة الشعبية، كما التحق كثير من أعضاء الاتجاه الاسلامي بحكومة الإنقاذ وبالدفاع الشعبي، وتطاولت الحرب الأهلية، وقتل فيها عشرات الآلاف من الجانبين، ولما بلغت الحرب مداها صار الكل يبحث عن التفاوض وعن السلام، ولكن لم يكن يوجد صديق أو زميل مشترك يتوسط بين الجانبين، الوسيط الوحيد كان هو الدولة صاحبة العصا الغليظة، ولا قوة الا بالله. (تجربتي الثانية في محاولات “التفهم” سأتركها للحلقة القادمة).

التجاني عبد القادر حامد
19 نوفمبر 2020