نعم الغربة أقسى نضال
لعلنا البلد الوحيد في العالم الذي اضطر فيه المطربون الى الهجرة طلبا للرزق، وكان من بينهم مطربنا العملاق عبد الكريم الكابلي (هل تعرف أن جده من أفغانستان ولقب الكابلي نسبة الى كابُل عاصمة أفغانستان)، وبعد ان ذاق اوجاع فراق الاهل كتب أغنية “غريب والغربة اقسى نضال”، ثم استدرك: والغربة سترة حال
من لم يجربوا الاغتراب عن الوطن يحسبون ان المغتربين في نعيم مقيم، وقد يكونوا كذلك من الناحية المادية مقارنة مع الحال البائس لمعظم المرابطين داخل الوطن، ولكن حقيقة الأمر هي ان المغتربين يعانون من فراق الأهل وقد يعانوا من ضعف الرواتب، ويعانون لأن مستحقي العون في الوطن من الأقارب في ازدياد مستمر، ولسنوات طويلة لم اكن مسؤولا إلا عن أمي التي كنت ابعث اليها مبلغا شهريا بل وأذكر انني وفي عام 1999 قررت زيادة راتبها ولكنها صاحت: اعمل بيهو شنو؟ وبعدها بسنتين بلغتها أنني اعتزم العودة الى الوطن نهائيا فصاحت: أمبا إليلن أرمود أُيقا جابجو (يا دوب الرماد كالنا) بمعنى انه وبمجرد عودتي سينقطع عوني لأهلي
عندما أوصلت أكبر اولادي الى المطار مسافرا للالتحاق بجامعة اوكلاند في نيوزيلندا وحاملا شيكا يغطي مصاريف العام الدراسية ونفقات سكنه ومعاشه كان رصيدي في البنك 50 ريالا وهو الحد الأدنى لبقاء حسابي مفتوحا، وكان في جيبي نحو 20 ريالا وفي اليوم التالي حصلت على سلفة على الراتب من جهة عملي كي أنفق على العائلة حتى موعد الراتب الجديد
قضيت سنوات الاغتراب ال18 الأولى وانا اجمع بين وظيفتين واجلس في البيت اترجم الكتب والوثائق لهذا الطرف او ذاك، وبعد سفر ولدي كنت أعمل بصفة رسمية في شركة الاتصالات القطرية وفي المساء في جريدة الشرق لنحو ثلاث ساعات ثم اهرول الى تلفزيون قطر رقيبا على البرامج والأفلام باللغة الإنجليزية، ثم فتحها علي الفتاح العليم فطلبت العديد من الصحف يدي فصرت اكتب مقالات يومية في صحف قطر والسعودية والكويت والبحرين ولندن ثم السودان، فتوقفت عن أي عمل يضطرني الى مغادرة البيت
والشاهد هو ان كثيرا من المغتربين يعيشون في ظروف صعبة، خاصة وانه كلما مضى الزمن سنة الى الأمام رجع الحال في السودان عشرين سنة الى الوراء، والله أعرف مغتربين لا تسمح أوضاعهم المالية بزيارة الوطن الا مرة كل خمس او سبع سنوات، وبعضهم يضطر الى ترك اسرته الصغيرة في الوطن لان دخله لا يسمح له بإعاشتهم في بلد المهجر، وياما هناك مغتربون يعيشون سنين عددا على الفول المعلب والتونا والساردين لضغط المنصرفات حتى يتسنى لهم اسناد الاهل في السودان، بل أعرف المغترب الذي يقول لصديقه: اديني ساعتك الحلوة دي أقشر بيها في الإجازة، وجاءت حكومة الكيزان وصارت تعامل المغتربين كأهل ذمة ففرضت عليهم جبايات لا اول لها ولا آخر: ضريبة وزكاة ورسوم للفضائية الرسمية وزاد المجاهد وطريق شريان الشمال، وعندما أصدر الرئيس المخلوع عمر البشير قرارا يسمح لكل سوداني بمغادرة الوطن دون طلب تأشيرة خروج، رفض جهاز المغتربين تطبيق القرار واستمر في طلب الجبايات
ثم جاء وجع الغربة في الغربة وهي ان تكون مغتربا عن وطنك في بلد ما وترسل عيالك الى بلد آخر للدراسة أو ان يحصل أحد عيالك على فرصة عمل في بلد ثالث، أما الوجع الأكبر فهو أن آلاف السودانيين لم يكتفوا بالاغتراب بل حصلوا على اوطان وجنسيات بديلة
قال الشاعر إسماعيل حميم: يا غربة يا غشاشة يا بكاية يا مستهبلة/ تغرينا بي درهم قروش وراه قنطار بهدله/ جيناك سنة أو قول سنين بنكمله/ نبني البيوت في العاصمة/ وكرولا حاره نرسله / لكن حساباتنا الغلط في كل عام بنرحله/ مرت سنين والحسبة وصلت طاشرات يمكن نعيش وندبلا/ أمراض كتيره بدت معاك عايزه الفحوص مستعجله/ ناس الضغط والسكري ومرض القلب مع الكلى/ وأكيد يكون أكل المعلب والمجمد عاملا/ يا غربة أديناك كتير أدينا خاطرك يسهلا/ خلينا نرجع بالفضل نلحق حياتنا نعدلا/ آمالنا فيك بدري إتنست إلاّ الرجول متوحله/ وبقينا زي أهل القبور لا البره عارف يدخلا/ لا الجوه يرجع لي ورا يحكي الحقيقة يوصلا
(في عام 2014 بلغت تحويلات المغتربين الى الوطن 5 مليارات دولار، ثم انتحر الجنيه وصارت تلك المليارات من نصيب تجار العملة)
جهفر عباس – صحيفة التحرير