عبد اللطيف البوني

الدين المعاملة

(1 )
لابد لي من إعادة قصة ذكرتها هنا قبل عدة سنوات، فحواها أن أحد أثرياء السياسة(قطة سمينة) في العهد السابق، أدركته صلاة الجمعة في قرية من قرى الجزيرة، فركن سيارته ( العلوية) عند بوابة سور المسجد ودخل، فكان موضوع الخطبة عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال الرجل تأكدت أن الخطيب كان يقصدني، ولكن لدهشته انتقل الخطيب من التجريد الى ضرب الأمثلة فذكر الذي يهمل في أنعامه فتدخل في زرع الغير، والتاجر الذي يطفف الميزان وبائع الطماطم الذي يضع الحبة الجيدة في الواجهة ويضع تحتها الطماطم (المبزرة). فقال تنفست الصعداء وقلت في نفسي و(الله الناس ديل حرامهم ساهل خلاص) وأضاف مش كدا وبس (والله حرام ود حلال عديل كدا).
(2 )
مناسبة هذه الطرفة أن إمام مسجد قريتنا العتيق الشيخ/ حسن الفكي السيد، كرس خطبة الجمعة الأخيرة للوظيفة العامة وأهمية ان يأخذها الموظف بحقها فلا يهمل في عمله ولا يغتني منها ويؤديها بكل إخلاص وتجرد عن المنفعة الذاتية، ووصفها بأنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة، وضرب الكثير من الأمثلة المعاصرة التي تدخل في هذا الباب، وذكر الآيات والأحاديث التي تحض على الاحترام والاهتمام بالوظيفة العامة فإذا قصر الموظف العام في أدائها ونفد من لجان التحقيق والمحاسبة، فإنه لن ينفد من حساب رب العالمين لذلك عليه أن يستحضر ضميره دوما لأن في صلاح الخدمة العامة صلاح البلاد والعباد.
(3 )
أصدقكم القول لقد أسعدتني خطبة الشيخ حسن أيما سعادة ، لأن خطب الجمعة في السنوات الأخيرة خلت من الإشارة للانحرفات الاجتماعية والدعوة لتنقية سبل كسب العيش من الممارسة التي تضر بالعباد والربط بن تجريم الدولة وتحريم الدين . ليس هذه دعوة لتسييس خطبة الجمعة، بل على العكس تماما دعوة لتجريد السياسة من المنفعة الذاتية. لقد فطن الناس تماما للخطب المسيسة وأخذوا يتصدون لها في وقتها، فتحولت خطب الجمعة في كثير من المساجد للدعوة للخلاص الفردي وتجويد العبادة والاستقامة وتهذيب السلوك، وكل هذا أمر مطلوب ولكن ان تترك الخطب القيم السامية من دعوة للعدالة والنزاهة والأمانة، هذه القيم الموجودة في كل الأديان السماوية والشرائع التي تواثق عليها البشر، أمر غير محمود، فكثير من الناس يفعل السبعة وذمتها في حق الدولة تحت ظن أن الدولة كوم وقيم الدين كوم آخر، فالميري في الثقافة السودانية مصلحة مرسلة يتقلب فيه الإنسان كما يريد.
(4 )
أي ثورة في الدنيا لا يمكن أن تنجح إلا إذا كان لها بعد ثقافي، فمعتقدات وموروثات الشعوب هي المكون الأساسي للثورة الثقافية، فدوننا ماو تسي تونغ الماركسي المادي، والذي أشعل أعظم ثورة ثقافية معتمدا على موروث كونفيصيوش، أما الثورات البرجوزاية الثلاث الفرنسية والأمريكية والإنجليزية، فقد قامت على عقيدة التحرر اللاهوتي التي فجرها مارتن لوثر مبتكر المذهب البروتستانتي. فديننا الإسلام زاخر بالموجهات التي تحض على المواطنة الصالحة والاستقامة في الشأن العام، ولكن للأسف حدث فصال نكد بين التدين والعمل العام، فتجد من يؤدي عباداته من صلاة وزكاة وصيام وحج بالزيادة ولكنه في نفس الوقت يرشي ويتاجر في الممنوع ويحتكر ويتقلب في السوق الأسود . كلامنا هذا ليس له صلة بقضية العلاقة بين الدين والدولة إنما يقع في خانة العلاقة بين الدين والفرد، وكيف يمكن أن يوظف الدين في إيجاد المواطن الصالح، أكرر المواطن لأنها من وطن.

صحيفة السوداني