عندما صرخ الانقاذي الخرطوم ليست مكة
في الأنباء بحسب صحيفة السوداني، إن النظام البائد كان يخصص ميزانية من المال العام لآلية تسمى (آلية تقنين القروض بالفائدة) يترأسها عبد الجليل النذير الكاروي، وتضم في عضويتها عبد الحي يوسف، وبابكر محمد توم، ومحمد الحسن الأمين، وإبراهيم الشيخ الضرير، وسليمان محمد كرم، وخضر عيسى إدريس، ومنى أبو حراز، وكانت هذه (الآلية) التبريرية تتلقى أموالا من الخزانة العامة نظير (جهدهم) في حياكة الفتاوى التي تجيز للحكومة تلقي القروض الربوية، وبهذا يكون النظام المخلوع قد كان يحوز على (سمكرجية) للفتاوى اضافة الى (الترزية) الذين كان يعهد اليهم مهمة تفصيل القوانين برئاسة كبير الترزية بدرية..
خبر سمكرجية فتاوى اجازة الربا، يعيد الى الذاكرة العبارة التي كان أطلقها رئيس البرلمان المحلول أحمد إبراهيم الطاهر، فالرجل حين اشتد اعتراض قلة من النواب على بعض القروض الربوية المطروحة للتداول وكان هو شخصيا من أشد المؤيدين لها، ما كان منه لإخراس الألسن المعارضة إلا أن يقول باندفاع دفاعا عن هذه القروض الربوية (لسنا في دولة مكة ولا دولة المدينة بل في دولة في هذا العصر)، وكأني به حين قال ما قاله هذا كان يتأسى بالهتاف اليساري الشهير (الخرطوم ليست مكة)، وتقول أرجح الروايات عن هذا الهتاف الشعار أنه يعود الى بواكير سبعينيات القرن الماضي وتحديدا في أعقاب نجاح انقلاب يوليو 1971م، الذي نفذته مجموعة من عضوية الحزب الشيوعي منقلبة على إنقلاب مايو 1969م الذي لم يكن عمره في السلطة قد تعدى العامين والشهرين، وكان هو الآخر فى بدايته يساري النزعة والتوجه كما هو معروف، ولكن بدا للمجموعة التي انقلبت عليه أنه بدأ رحلة الانعطاف يمينا، ولهذا سارعت لاعادته إلى مساره اليساري الصحيح، ولعلهم لهذا السبب أسموا انقلابهم (الحركة التصحيحية)، ولهذا أيضا كان طبيعيا أن تكون أول عبارة تصحيحية يصيحون بها هي (الخرطوم ليست مكة)، ولكن لم يلبث الانقلابيون الجدد سوى ثلاثة أيام بلياليها حتى استعاد الانقلابيون الاوائل سلطتهم واستتبت الامور مرة أخرى للنميري عبر إنقلاب مضاد حتى على مستوى الهتافات ومنها كان الهتاف المضاد (الخرطوم ليست موسكو)..المهم أن هتاف (الخرطوم ليست مكة) إرتبط بأهل اليسار بينما أصبح هتاف (الخرطوم ليست موسكو) ماركة تجارية مسجلة باسم جماعة اليمين، وحتى هنا ظل أي هتاف في مكانه، ما لليمين لليمين وما لليسار لليسار، وسار كل هتاف في مساره، وثبت كل على موقفه، من يؤيد الدولة الدينية ومن يناصر المدنية حتى جاء انقلاب الانقاذ ووجد الجماعة نفسهم على المحك بعد ان اعتلوا سدة الحكم فأصبح كل شيء في غير مكانه..ومن محكات الحكم التي أربكتهم حتى كونوا آلية لتجويز الربا وهتف أحدهم بهتاف أهل اليسار، كانت القروض الربوية أحدها، وهكذا كان لسان حالهم العلماني الذي يناقض لسان مقالهم الديني يؤكد كما قال رئيس البرلمان المحلول أننا (لسنا في دولة مكة ولا دولة المدينة بل في دولة في هذا العصر)، وقد صدق وهو كذوب فللدولة السودانية خصوصيتها، لا هي دولة مكة ولا هي الدولة السوفيتية ولا هي الجمهورية الفرنسية، هي دولة السودان بما فيها من تباينات واختلافات وتعدد ثقافي واثني وبما تكابده من مشكلات وأزمات مختلفة ومتطاولة ومزمنة لا تعانيها غيرها وانما تخصها وحدها، وهي بمقاييس العصر الذي تعيش فيه دولة متخلفة وموبوءة بالمشكلات والازمات..
حيدر المكاشفي
صحيفة الجريدة