وجدي كامل يكتب التماهي بين الحزبية السياسية والقبلية الاجتماعية
هل يمكن وصف أن ثمة علاقة بين مشاعر التأييد السياسي الذي يجد إجازته في الحزبية، والتأييد الاجتماعي الذي يكمن معناه في القبلية؟! هل هنالك مشتركات تقوم بين الحزبية والقبلية الاجتماعية؟!وكيف يمكن تعريف ذلك وإثباته؟!
الحزبية السياسية يمكن وضع تعريف لها بأنها ذلك النسق من مشاعر التحيز المطلق الذي يسيطر على عاطفة وعقل الفرد المنتمي إلى جماعة حزبية عن طريق الارتباط ببرامجها المعلنة، ورصد الاستجابات، وردود الأفعال العاطفية المتعددة.
أما القبلية فتعتبر صيغة الانتماء والتعبير العاطفي فقط للكيان الاجتماعي الذي ينحدر منه الفرد، فيدين له بصفة طبيعية عبر روابط اجتماعية دقيقة ودائمة، تبدأ منذ الميلاد وتستمر إلى الممات. عليه فإن الفرق بين الارتباطين يكمن في أن الرابطة الاولى رابطة عاطفية وذهنية مخير فيها الإنسان بالبقاء أو المغادرة، بينما الثانية رابطة عاطفية تبقى موجودة فيه حتى الممات.
فالأحزاب السياسية، وفي التعريف الدقيق، تعتبر فصيلاً من فصائل منظمات المجتمع المدني، وناتجاً من نواتجه وصميم متولداته. والأحزاب وبذلك الاعتبار، ولدت في سياق التطور المدني السياسي بالعالم كتعبير حى لروابط سياسية تنشأ بين أعضائها، وفق درجة من التوافقات على البرامج والأهداف السياسية المعلنة، عبر المانيفستو والدساتير.
ومن المهم هنا إيراد أن الأحزاب كظاهرة تنظيمية سياسية جاءت كنتاج من نواتج التطور الاجتماعي الأوروبي الذي خاض نضالاً عنيفاً ضد الأبنية الاجتماعية الإقطاعية الدينية السابقة، غير أن انتقال ظاهرة الأحزاب إلى مجتمعات العالم الثالث، أو ما يسمى ديبلوماسياً بـ (العالم النامي)، لم تكن نتاجاً طبيعياً لتطور الحركة الاجتماعية العالمثالثية، بل هي إلحاق مصنوع اقتضته تأثيرات الحداثة السياسية أو الثقافية السياسية في تلك البلدان، تأسياً بالتجربة الكولونيالية المركزية في الغرب.
يشير ذلك إلى أن التربة التي تنمو فيها الأحزاب العالمثالثية، ومنها الأحزاب السودانية، لم تكن أكثر من تربة تعبير النخب السياسية الوطنية المتأثرة بتجارب مصر والدول الغربية، في وقت ظلت تحتفظ فيه البنية الاجتماعية في المدن السودانية بالروابط القبلية والنظم العشائرية التي لم تتمكن من الذوبان حتى في العاصمة الوطنية أمدرمان (أيقونة التمازج الكذوب) للمدن السودانية، والتي نهض منها التاريخ الوطني الثقافي الحديث، بأن قامت على تخطيط جغرافي واجتماعي، تأسس على القبيلة والأصل القبلي في الكثير من أحيائها ومناطقها.
وقد قامت المفارقة في نشوء الأحزاب كأوعية مدنية اكتفى بعضها بشجب القبلية والجهوية في برامجها الاجتماعية دون جهود تبذل لدحر ومحو الوعي القبائلي والجهوي، حتى إذا ما حط زمن سياسي واقتصادي آخر، تفرقت أنساق العضوية والحزم المنتمية السابقة لتنبذ أحزابها وتخرج عن طاعتها، وتحمل السلاح باحثة عن حقوق الجهة والقبيلة الضائعة المسلوبة، والعمل على استردادها.
تأثرت الأحزاب السودانية، ومن دون شك، بسياسة (فرق تسد) المتخذة من المؤتمر الوطني، بغرض تقسيم الأحزاب عبر آلية الحروب الأهلية التى شنتها الإنقاذ، وأدت إلى إحداث وولادة وعي جديد بالهوية الاجتماعية وموقعها من الهوية الوطنية السابقة. ولكن تعود جذور المفارقة إلى أن الأحزاب ومن جهتها لم تنم برامجها الثقافية السياسية، ولم تول الظواهر الاجتماعية والسياسية الجديدة الأهمية الكافية عبر إعلامها وآلياتها للتواصل بين منسوبيها. يعود ذلك وغيره من أعراض مرض الأحزاب لعدم عملها بسياسة جمع البيانات وبناء الأفكار التجديدية بناء على ذلك، ومن ثم اتخاذ القرارات.
لقد ارتبط الفرد الحزبي، وفي غمرة انخراطه الحزبي، بقواعده الاجتماعية والطبقية، ولم يتزحزح منها قيد أنملة، نسبة لبطء عمليات النمو الاجتماعي، وتكلس الحياة الديمقراطية داخل الاحزاب، والتي خلقت واقعاً حزبياً توفر على الكثير من الخصائص الاجتماعية المرتبطة بدرجة أقل من المدنية، وبحيث تماهى الحزب مع القبيلة وزعيم الحزب مع الزعيم القبلي بحكم شروط الوعي المختلط، وبقاء بذوره القبلية التي لم تقض عليها أساليب التطور من ثقافة وتعليم نوعي، فتستيقظ نزعاتها كلما توفرت الظروف لها بالعواء.
فعلى الرغم من أن الحزب بناء مدني كما قلنا، من المفترض أن يقوم على قاعدة قانونية ديمقراطية، إلا أن الديمقراطية دائماً ما تكون في أزمة، أو مأزومة بسبب احتكار القرار للأجسام الفوقية القائدة، وعلى رأسها رئيس الحزب. فرئيس الحزب غالباً ما يظل رئيساً مدى الحياة، لا يتنازل لغيره، ولا يستطيع أحد إزالته استناداً على دواع أمنية، يأتي في مقدمتها التبرير ووضع المسوغات بالحفاظ والمحافظة على الحياة الداخلية للحزب وصيانة وحدته.
ويمكن العثور على العديد من العلاقات المشتركة بين الحزبية السياسية والقبلية الاجتماعية، ومن أهمها التبعية العمياء والانصياع الكامل لشبه اللوائح والقواعد التي تنظم العلاقة بين الفرد في القبيلة والعضو في الحزب، وبين ما تنشأ من روابط عاطفية اجتماعية بينية بين الافراد في القبيلة والأعضاء في الحزب. في خضم ذلك، تنتصر سيكولوجية الاقلية، وتتمظهر كقوة مضطهدة تعمل على صيانة بقائها ضمن المجتمع الكبير، فنجد أن أواصر التواصل بينهم على المستويين الأسري والعائلي أقوى من أوصر التواصل الأخرى في السكن والعمل، بسعي دؤوب لتغذية العاطفة المشتركة والرابطة العاطفية الاجتماعية التي تجمعها.
كذلك نلاحظ انصياع الأفراد في القبيلة والأعضاء في الحزب للقرارات الفوقية المنزلة، وهي ما تتمثل في الأحزاب بقرارات الهيئات القائدة، وفي القبيلة الاجتماعية بقرار مجلس القبيلة والزعيم القبلي، ولا يكون للفرد طاقة أو سلطة لمقاومتها أو إعلان الزختلاف معها، لعلمه المسبق لما ينتظره من عقاب قاس يقود إلى فصله في حالة الحزب، وإخراجه عن الملة في القبيلة. تلك عقوبات ذات صلة بفكرة الكفر بالدين الإسلامي كدين أب في معظم البلدان التي تشتبك فيها ثنائية الارتباط.
فما بين زعيم القبيلة وزعيم الحزب في البلدان العالمسلامية، ومنها السودانية، فوارق شكلية للغاية. فتعاظم وتفاقم السلطة الأبوية في هيئة الزعيم عادة ما يشكل السلطة الاقتصادية المطلقة، وكذلك بالأحزاب التي تتأثر ملكية القرار المطلقة بحكم الكلمة الاقتصادية العالية لشخصية الزعيم، خاصة في الأحزاب ذات الارتباط الديني والطائفي. تتعرض في الكثير من المنعطفات السياسية تلك الملكية المطلقة للاهتزاز، وتستجيب للصراع بين النخب المثقفة وبين الزعيم الديني والطائفي، دون أن تفلح في انتزاع انتصار عليه بحكم تبعية القواعد الروحية للزعيم في مقابل ضعف التأييد في أبنيتها التحتية للنخب الراغبة في التحديث.
غير أن تلك الظاهرة تجد من التعقيد ما تجد بالأحزاب ذات الطبيعة المدينية التي لا تلتزم في معظمها أو تحتكم لقواعد الديمقراطية في حل الصراعات كنتيجة مباشرة لتدجين القواعد بالوعي الحزبي المرتبط بفكرة قداسة الزعيم أو النخبة القائدة. ويلاحظ هنا أن غالبية تلك الصراعات تحدث في الحياة الحزبية لأحزاب اليسار التي ترفع آراء زعمائها لمستوى القداسة حتى بعد موتهم ومغادرتهم الحياة، كضرب من الاحترام والتقدير لهم، وبتصوير أن النقد وإعلان الاختلاف على قاعدة تباين الآراء والرؤى من شانه انتهاك قيم المؤسسة الحزبية التي يفضل بقاء أفكارها العتيقة على تعريضها للتجديد وفق منطق التطور.
مثال على ذلك الأحزاب الشيوعية والناصرية والبعثية، وأحزاب القومية العربية، بما ارتبطت به من حقب وزعماء قضت على العديد من أفكارهم ما جرى من تحولات في التجربة الاشتراكية السوفيتية، والثورة العربية والمتغيرات التي أصابت مجتمعاتها، وما أفرزته الكونية عبر الثورة التقنية والمعلوماتية من تغيرات بنيوية في حياة تلك المجتمعات وأحوال التفكير الثقافي لدى أعضائها.
وإلى أن تنجلي الفوارق بين الروابط القبلية الاجتماعية والحزبية السياسية، سوف نظل في انتظار نطق النمو الاجتماعي الديمقراطي بلسانه، كما التطور الثقافي الديمقراطي، بحيث يخلقان الفروق الحاسمة، وتحسين منصات كل منهما عبر إطلاق حزم من برامج التنمية الثقافية الاجتماعية لديمقراطية عضوية راسخة، تنطلق من أرضيتها البنى والمفاهيم الحداثية الجديدة.