عبد اللطيف البوني

الخروج من الكون!


(1)
قديمة قصة الرجل المحب للمديح والذي يرتاد حلقات الذكر، وعندما يغرق مع القصيد يدخل الحلقة وتصدر منه أصوات غير مألوفة من الرجال؛ كان يبكي ويتمرغ بالأرض، الأمر الذي سبب حرجاً لأولاده؛ فاجتمعوا به وقرروا منعه من الذهاب لحلقات الذكر، ولكنه رفض، وأخيراًً توصلوا لاتفاق يقضي بأن يسمح له بالذهاب على ألا يدخل الحلقة ويجلس بهدوء، وأقسم على ذلك بالطلاق، ولكنه في أول مناسبة فشل إذ عندما جات مدحة معينة دخل الحلقة قائلاً (يادوب البتطلق أمهم جات)، وفي أدب المدائح يقولون (خيطه جا).
شاعرنا المجيد محمد المهدي المجذوب قد وصف هذه اللوحة (وفتى في حلبة الطار تثنى وتانى \وبيمناه عصاة تتجنى \راجع الخطوة بطار\ورجع الشوق وحنا\وحوله المحبون يشيلون صلاة وسلاما \ويذوبون وجدا وهياما\ويهزون العصيا \ويصيحون ابشر \لقد نلت المراما).
(2)
في مطلع السبعينات وساعة دخول التلفزيون الجزيرة كان في القرية جهاز تلفزيون واحد موجود بالنادي وأذكر من برامجه العالية المشاهدة (ساعة صفاء) وهو برنامج مختص بالمدائح يقدمه الأستاذ الأديب الراحل محمد حجاز مدثر، وكان رجلاً متمكناً من موضوعه جاذباً جداً في تقديمه؛ انتقائياً في مختاراته من المدائح، وفي أثناء إحدى المدائح والناس ينصتون في خشوع الظلال كما قال الشابي؛ ارتمى أحد الحضور على الأرض (بردلب) وأخذ يترجم كما يقولون، فانخلع معظم الحضور وانصرفوا عن التلفزيون والتفوا حوله فصمت، ولكن زادت حركته ثم توقف عن الحراك فجأة وجحظت عيناه كأنه في حالة غيبوبة ثم تم رشه بالماء فاستيقظ؛ وعاد له وعيه وقواه فجلس على كرسيه كأن لم يكن هناك شيء. تبادر إلى ذهني أن في الأمر صناعة رغم أنني لا أعرف للرجل أي سوء في السلوك؛ ولكن بدا لي أن تصرفه لا يخلو من الصنعة.
(3)
ودارت الأيام وكبرنا وكبرت أحزانا كما غنى المغني وبدأت كثافة الماديات تقل في الدواخل وزحفت في مكانها الوجدانيات، وكنت ذات عصرية خريفية متجهاً إلى القرية وحيداً، وأثناء تسكعي على إذاعات الأف أم وجدت في إحداها الجابري يغني (هات يازمن جيب كل أحزانك تعال /جيب المحن/ طول يا أسى وكتر ينابيع الشجن /جرعني كاس من لوعة ما المحبوب خلاص…) ثم يكسر بتخفيف الإيقاع (الليل يهود بي / ويبقى تلت أخير / يطويني في رحابه الوثير..)، ثم يعود بإيقاع آخر (من بعدما علمني ريد /وفجر عواطفي غنى ونشيد….) موسيقى تضرب في الأعصاب ضرباً وليس مجرد ملامسة صوت الجابري المعتق كلمات مجلية لا يعلوها أي غبار أو صدى، والحال هكذا وجدت نفسي في عالم آخر، وفي آخر لحظة وعي ترجلت بالسيارة من على الإسلفت واعترتني رغبة في الدخول في راديو السيارة وأظن أنني قد فعلت (لا يمكن أبداً مستحيل /في يوم أميل.. قلبي الملان حنية زاخر بالأمل /مهما حصل /..)، لا أدري إن كانت تصدر مني أصوات أم لا. بعد أن انتهت الأغنية جبدت نفساً عميقاً وحمدت الله أنني كنت وحيداً، فتذكرت الرجل بتاع (البطلق أمكم) وتذكرت فتى المجذوب الذي تثنى في حلقة المديح، ولكن توقفت كثيراً عند عمنا بتاع نادي القرية فترحمت عليه، وشعرت بأنني قد ظلمته واستغفرت الله من حقه، وتأكدت أن في هذه الدنيا أمور لا يمكن أن يدركها إلا من عايشها، ولا ينفع معها الجدل والمنطق. وتذكرت تلك المقولة المشهورة (اوقفوا الأرض أريد أن أنزل).

عبد اللطيف البوني
صحيفة السوداني