زهير السراج

أربعاء الحلو !


* هنالك قصة طريفة تروى عن رجل من حاشية أحد الأمراء العرب في عصور الانحطاط العربي اشتهر بالكذب والنفاق، وكانت العادة في ذلك الزمان أن يخرج الامير مع حاشيته قبل حلول شهر رمضان المعظم لاستطلاع هلال الشهر من فوق ربوة عالية خارج المدينة، وبينما الجمع يتطلع الى السماء لرؤية الهلال، صاح الشخص المنافق بأعلى صوته وقد رأى الهلال .. “ذاك هو الهلال يا مولاي”، فأثنى عليه الأمير بعد أن رأى الهلال وأغدق عليه بالمال الكثير ، وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى فوجئ الجميع بالرجل يصيح مرة أخرى وهو ينظر الى الجهة الأخرى من السماء .. “وذلك هلال آخر يا مولاي”!
* تذكرت هذه القصة الطريفة عندما سماعي للطلب الغريب للحركة الشعبية لتحرير السودان/ جناح عبد العزيز الحلو في الورقة التي تقدمت بها الى لجنة الوساطة عن رؤيتها لحكم السودان، بأن تكون العطلة الاسبوعية (يوم الاربعاء) باعتباره يوماً محايداً بين الأديان وليس مثل يوم (الجمعة) الذي يؤجز فيه المسلمون أو (الاحد) الذي يؤجز فيه المسيحيون أو (السبت) يوم إجازة اليهود، الامر الذي سيحقق العلمانية الكاملة المطلوبة للدولة وحيادها الكامل بين الاديان في نظر (الحلو)، وهو ليس سوى تنطع ومبالغة يضعه في مقام صاحبنا الذي أثنى عليه الامير لرؤيته لهلال الشهر الكريم، فادعى رؤيته لهلال آخر طمعاً في المزيد.
* تقول الاستاذة رشا عوض: “سمعت قصة الاجازة (يوم الاربعاء) هذه أول مرة من صديقي (أبكر آدم اسماعيل) أيام طيبة الذكر صحيفة (أجراس الحرية)، فقال لي “في كاودا عملوا الاجازة يوم الاربعاء، لأنهم بعد بحث طويل تأكدوا من ان يوم الاربعاء ليس يوماً مقدساً لأي دين على وجه الارض”، حينها اعتقدت ان الموضوع ونسة ساكت، ولم يخطر ببالي ان مثل هذه المشاغبات ستجد طريقها الى مفاوضات سلام”!
“طبعاً لا استطيع أن أجزم بمدى دقة ذلك البحث الذي اثبت الحياد الديني ليوم الاربعاء ، ولكن لو افترضنا ظهور دين جديد يقدس يوم الاربعاء ويجعله يوماً لأداء شعائره ماذا سنفعل، هل نلغي فكرة الاجازة تماماً”؟!
“الأهم من كل ذلك، ما المشكلة في اختيار يوم الاجازة الاسبوعية بناءً على دين أغلبية او أكثرية السكان باعتبار ان التدين حق من حقوق الانسان، وبالتالي اتاحة الفرصة للمواطن لممارسة شعائره الدينية والاستمتاع بروحانياته عبر تخصيص الاجازة الاسبوعية يوم الجمعة للمسلمين ويوم الاحد للمسيحيين” ؟!
“طبعاً يمكن الاعتراض على ذلك باعتبار ان هناك أديان أخرى غير الاسلام والمسيحية في السودان وهي لا تعد ولا تحصى، ولكن موضوع الاجازات واللغة الرسمية للدولة كلها تعتمد على الاحصائيات وما يمكن تطبيقه عملياً، فلو كان في السودان مائة وثلاثون لغة، فهل من الناحية العملية نستطيع طباعة المنهج الدراسي وجوازات السفر واللافتات في المدن والطرق السفرية بمائة وثلاثين لغة، وتكون كلها لغات رسمية”؟!
“التشدد في مثل هذه الامور لن يثبت حياد الدولة العلمانية تجاه الدين، بل على العكس سيصور الدولة ككائن يكره الدين ويشمئز من رموزه. في كل الدول التي نبعت منها العلمانية فكراً وممارسة لا نجد هذا التنطع العلماني! فكثير من الدول الاوروبية تضع الصليب على اعلامها، وهناك أحزاب تسمي نفسها الحزب الديمقراطي المسيحي، وعبارة (نحن نثق بالله) مطبوعة على الدولار الامريكي وغالبية دول العالم تؤجز يوم الاحد، وأعياد الكريسماس اجازة رسمية في تلك الدول، حتى الدول الملحدة كالصين مثلاً تؤجز يوم الاحد تناغماً مع أغلبية دول العالم لاعتبارات المصالح الاقتصادية، إذ ان ترابط العالم ببعضه اقتصادياً وسياسياً يفرض هذا التنسيق في العطلات الاسبوعية، وهذا ما دفع الدول ذات الاغلبية المسلمة الى تخصيص الجمعة والسبت للإجازة الاسبوعية بدلاً من الخميس والجمعة حتى يكون ايقاع العمل متقارباً مع غالبية دول العالم”!
“وبعدين يا جماعة الخير، غالبية أهل الهامش الذين تتفاوض الحركة الشعبية باسمهم لا ناقة لهم ولا جمل في موضوع الاجازات الرسمية لأنهم محرومون من فرص العمل في مؤسسات الدولة، وغالبيتهم يعمل في القطاع غير المنظم الذي ليست فيه اجازات، لا أربعاء ولا يحزنون”!
“القضية التي تؤرق المهمشين هو توفير العمل وتحسين شروطه وتأمين السلامة فيه واعطاء اجازات للراحة والاستجمام، ولا أظن أن أحداً من المهمشين يؤرقه ما إذا كانت الاجازة يوم الجمعة او الاحد او الاثنين او الاربعاء وعقاب شهر، لأن الاغلبية اما محرومين من العمل من حيث هو، او محرومين من الحق في الاجازة لأنهم عمال مهضومي الحقوق!
“المؤسف في اثارة مثل هذه القضايا الانصرافية، انها تشير الى عدم الجدية في الوصول الى مشتركات وتصيد ما يثير الخلاف، وتبديد الزمن والطاقات في تنطع لا يسمن ولا يغني من جوع”!
“التنطع هو المغالاة والمبالغة في الالتزام بمبدأ أو فكرة أو قيمة لدرجة مفارقة الحكمة والتوازن” (إنتهى).
* قد يكون مقترح الاربعاء هو موقف تفاوضي من الحلو، ولكنه على كل حال موقف شاذ ومضحك ومثير للتقزز والسخرية وينبئ عن سوء فهم للعلمانية، وبالمناسبة يا حلو .. يوم الاربعاء ليس محايداً فهو عيد رأس السنة عند طائفة اليزيديين ويطلقون عليه اسم (الاربعاء الأحمر) لأنه اليوم الذي ضخ فيه الرب الدم في جسم آدم، كما يعتقدون، فهل ما زلتَ مصراً عليه، أم ستأتي لنا بيوم تقطعه من رأسك يحقق مغالاتك وغلوك وفهمك القاصر للعلمانية؟!
***********

زهير السراج
صحيفة الجريدة