جعفر عباس

أبوي المِرِق والشِعبة


أبوي المِرِق والشِعبة
جعفر عباس
يصادف اليوم (20 يونيو) يوم الأب العالمي في كثير من البلدان، وبحمد الله فإنني أب وجد وعمري ما زال 39 سنة حسب التوقيت المحلي لدولة قطر (ولأن السودان يقع غرب قطر مما يجعل توقيته أنقص من توقيت قطر، فعمري في السودان في حدود 34-36 سنة)، المهم انني وفور سماعي بيوم الأب تذكرت عباس سيد احمد رحمه الله، وتذكرت آخر مرة رأيته فيها، وكان ذلك يوم خروجي من سجن كوبر في فترة حكم جعفر نميري، وفوجئت بأنه موجود في الخرطوم بحري التي قدم اليها من كوستي لتلقي العلاج من علة طارئة، وكانت تلك أول مرة أراه فيها يجهش بالبكاء، وبعد ان بادلني التحية طويلا طلب مني التوجه الى كوستي لتفرح بي أمي وإخوتي، وبعد قضاء ساعات قصيرة معه انطلقت الى كوستي، وكانت تلك آخر مرة أراه فيها، فبعد قضاء يومين في كوستي توجهت الى موقف البصات للعودة الى الخرطوم وهناك جاء من يبلغني ان والدي توفي
كان أبي لطيف الروح كثير الابتسام، وله شنب “يرك فوقه الصقر” وكان اهتزاز ذلك الشنب عند الغضب كفيلا بردع أي واحد من عياله، ولا أذكر انه ضربني سوى مرة واحدة وكانت ضربة واحدة على الكتف لأنني قصرت في تنفيذ ما أمرني به (وشبعت ضربا من امي بكل ما يقع في يدها وانا تلميذ في المرحلة الابتدائية في بدين بعيدا عن أبي لأنني كنت طفلا “راس هوس”)، خلال عطلة وأنا في أعتاب الجامعة تناول والدي ملابسي من “الحمار” (عصر ما قبل اختراع الشماعة) ليذهب بها الى المكوجي، ووجد علبة سجائر في جيب القميص واستدعاني، وجلست أمامه وجسمي يهتز بقوة 9 درجات على مقياس ريختر، ولكنه قال لي: ما عاوز واحد يقول عليك قليل أدب لما تشرب سجائر بره البيت!!!! بس كدا؟؟؟ أحسست بالخجل: في تقديره لن أتوقف عن التدخين بالزجر وبالتالي اقترح ان امارس التدخين في البيت فقط، كي لا اعطي الانطباع بأن ولد عباس طائش عند التدخين في مكان عام؛ وتقديرا له توقفت عن التدخين فورا (ولكن- يا للعار- لنحو سنتين فقط، ثم توقفت نهائيا عنه منذ ثلاثين سنة- يعني وعمري.. كم سنة؟)
كان أبي رحمه الله شديد الحرص على نظافة الثوب والبدن، وكان يملك مطعما جيد المستوى في كوستي وذات يوم رأى الجرسون يتمخط في المريلة التي كان يرتديها فطرده على الفور وعينني جرسونا ليوم واحد نظير خمسة قروش (واختلست خمسة قروش أخرى من درج حفظ النقود)، ورغم أنه كان أميا مع سبق الإصرار والترصد فقد كان منظما وشديد الوعي والذكاء وهو ما جعله يتحول من بحار في النقل النهري الى صاحب أكثر من مطعم، بعد ان جمع ثروة لا بأس بها من ممارسة التجارة بين كوستي وجنوب السودان، وأذكر اننا فتحنا خزنة كان يملكها في البيت بعد وفاته ووجدنا فيها كافة إيصالات ضريبة “عوائد البيت” على مدى سنوات طوال مغروسة في مسمار طويل ومرتبة حسب تسلسلها التاريخي
ورغم حزني الشديد على فقده إلا أنني أجد العزاء في أنه عاش حتى دخولي الحياة العملية ومساهمتي في تخفيف أعباء الصرف على البيت عنه، والعزاء الأكبر أنه لم يمت وأنا بعيد عنه في السجن بل بعد خروجي من السجن ولقائي به بيومين وبعض اليوم
رحم الله عباس أبو شنب، ورحم من رحل من آبائكم ورحم الله الصديق الشاعر سعد الدين إبراهيم صاحب: أبوي شعبتنا روح آمالنا/ ضو البيت/ ضراعو الخدرا ساريتنا/ نقيل وفي ضليلو نبيت/ أبوي زغرودة السمحات/ أبوي عاشق الشمس والنيل … نحبك شمعه في ليلنا/ تنور للخطا وتهدي/ نحبك يابا زي نيلنا/ طويل وأصيل وممتدي

جعفر عباس
صحيفة التحرير