ضياء الدين بلال

عبث سياسي!


[JUSTIFY]
عبث سياسي!

مشهد من سخرية الأقدار وعبثية السياسة في السودان.
حينما كنا نغادر فندق ريدسون بأديس أبابا، بعد تعليق مفاوضات الحكومة السودانية مع متمردي الحركة الشعبية، في ولايتي جنوب كرفان والنيل الأزرق، وعلى بوابة الفندق -المتوسط الأناقة- وبينما كان المتفاوضون في طريقهم للخروج؛ إذا بفرقاء دولة الجنوب المنفصلة عن السودان، يدخلون إلى ريدسون، لاستئناف مفاوضات عبثية -مكتوب عليها الفشل قبل أن تبدأ- لإيقاف الحرب القبلية المشتعلة في ثوب الدولة الجديدة!.
مفاوضات حكومة جنوب السودان والمتمردين عليها، بقيادة نائب الرئيس السابق دكتور رياك مشار، تتم في ذات الفندق (ريدسون)، وتستضيفهم ذات القاعات، وتأويهم نفس الغرف، التي حفظت حوائطها أسرار الوفود السابقة!.
مجموعة عقد الجلاد الغنائية، تغني في فضاء الأزمة السودانية المركّبة، على أربعة أضلاع:
(المناظر هيّ زاتا
الصور نفس المشاهد
الشوارع والبيوت
الأماكن والمقاعد
والزمان ثابت مكانو
والرقم اللسّه واحد)!
الجينات هي الجينات، تحمل ذات الأمراض، وإخوة كرامازوف (الإخوة الأعداء) بنفس الملامح والشبه والنهايات، على ذات الطريق: حمراء قانية!.

دولة تنقسم على نفسها بعد حرب تعتبر الأطول في تاريخ الحروب المعاصرة.
تنقسم على نفسها بحثاً عن السلام، وقبل أن تجفّ دماء الخارطة، إذا بالحروب تندلع في الدولتيْن: في الدولة الوليدة، والدولة الأم، وفي خاطر المساكين البسطاء.

وإذا بالجراح في الدولتيْن تغني للخنجر، والأطباء بلا دواء، ورجال الإطفاء بلا ماء، والساسة لا يمسهم سوء، ولا ينالهم نصب، ولا وصب، وحدهم المواطنون يدفعون فواتير الحروب من دمائهم!.
تعبان دينق بالمطعم السوداني بأديس أبابا، ببزة رمادية أنيقة، على مائدة عامرة بأطايب الطعام، والأسافير تنقل صور القتلى بولاية الوحدة تأكل لحومهم الطير، و150 فرداً من الأطفال والنساء وكبار السِّن، يهربون من جحيم الحرب، فتبتلعهم مياه النيل، ولقمة على حلق تعبان تستنجد بجرعة ماء للعبور.
وفيلسوف ألماني يلخص الدرس ببراعة فائقة: (التاريخ هو مجموعة الأشياء التي كان يمكن تفاديها).

هذا هو نموذج التغيير السائد في المنطقة الإفريقية، لا يأتي عبر أصوات المواطنين؛ ولكن عبر جثثهم المسافرة إلى الآخرة على بريد الرصاص.
تغيير مؤقت ريثما يقوى المهزوم، ويستقيم عوده، ليردّ الكرّة بمثلها.. الجميع في دائرة من العنف المغلق، ومفاوضات الباب الدوار التي لا تنتهي إلى شيء!.
إنها الرغبة في التغيير الثوري الفوري الدموي، الذي يأتي على حساب الشعوب، ليحقق أحلام المغامرين المترفين!.
حروب لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد: نخب سياسية شديدة الانكفاء على مصالحها، وضعيفة الإحساس بأوجاع مواطنيها!.

كما الحروب لا تنتهي، كذلك مفاوضات الباب الدوار تقودك على ذات الطريق، الذي سلكته قبل قليل، نقطة البداية هي ذاتها نقطة النهاية، والدخول لقاعات التفاوض يتم عبر بوابات الخروج!

ولا أحد منهم يعي أن الصراع السياسي إذا لم يحتكم إلى الوسائل والأساليب السليمة، والتعابير النظيفة؛ فهو أقرب طريق لصناعة المأساة.
والسياسة كما يقول الحكماء عنها، هي فن تجنيب الشعوب الكوارث والأزمات، التي تفضي للمآسي والأحزان.

[/JUSTIFY]

العين الثالثة – ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني