محمد عبد الماجد يكتب: الحلو الأديب الذي جعل الثقافة (أسلوب حياة)
(1)
عندما ولجنا إلى عالم الصحافة كان عيسى الحلو أحد أيقونات الصحافة ، بل أيقونات الثقافة كلها في بلادي – كنا نسترق السمع إلى كلماته في تهذب شديد – ونتلصص لرؤيته وهو يمارس عمله الصحفي بكل هدوء دون أن يشعر بذلك – وهو ينطلق في صالة التحرير بشكل انضباطي والتزامي كبير وبصوته الهامس، حتى أضحى عندنا (الهمس) شكلاً من أشكال الثقافة، ندعي به ثقافتنا في حواراتنا – كنا نظن في بدايات تطلعاتنا الصحفية أن الثقافة شيء من الجنون – وأنها قمة الفوضى واللا مبالاة – أعتقدناها منتهى الحريات بشكل مطلق ، إلى أن رأينا عيسى الحلو فوجدنا فيه كل الانضباط والالتزام والوقار.
لا أعتقد أن هناك صحفيّاً كان ملتزماً بالمهنية وبتسيلم المواد لتأخذ دورتها الصحفية من سكرتارية التحرير مروراً بالتصحيح وحتى التصميم في ميعادها مثل عيسى الحلو – والذي كان يمثل لنا حالةً من الهيبة والرهبة والقوة في الصحافة السودانية.
عملت فترة قصيرة في صحيفة الرأى العام – كنت أتحاشى فيها مقابلة عيسى الحلو احتراماً وتقديراً له – تمنيت أن أحاوره وسعيت إلى ذلك لكن لم تكن عندي الشجاعة (الأدبية) الكافية لمحاورة هذا القامة – رغم أني كنت أشهد بساطته وسهولة التعامل معه، لذلك لم تجمعني به معرفة شخصية.
أكتب عن الحلو الآن ليس من منطلق (زميل) عمل معه فترة بسيطة في صحيفة (الرأي العام) فهذا شرف لا أدعيه ، وإنما أكتب عنه من منطلق (قارئ) تابع شيئاً قليلاً من إنتاجه الأدبي الكبير.
(2)
أجزم أني لم أر (فناناً) مثقفاً أعلى من ثقافة الفنان عبدالكريم الكابلي، وأقطع أني لم أشهد (شاعراً) مثقفاً في ثقافة الشاعر مصطفى سند – في الإعلام والصحافة ليس هناك (صحافياً) في ثقافة الأديب والقاص والصحافي عيسى الحلو – ربما نتج ذلك من أن عيسى الحلو هو ابن للثقافة وهو رسولها في الصحافة وأفضل من عبر عنها إعلامياً.
عيسى الحلو الذي احتفل قبل ثلاث سنوات بنصف قرن (سرد) ، وهذا أمر شاق لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال الحلو، الذي اجتهد كثيراً وعمل من أجل أن يجعل الثقافة (أسلوب حياة).
عمل الحلو على ترسيخ هذا المبدأ في الصحافة التى لا يتحقق فيها النجاح إلّا من خلال الإثارة والتراشق والتهاتر والإساءة أحياناً – الحلو وصل إلى قمة النجاح والانتشار والشيوع في الصحافة عبر نافذة (الثقافة) والتي يتحدث أهلها بلغة قد تكون عصية على القراء أو غير مرغوب فيها عندهم.
ظل الحلو على هذا المنوال منذ أن عمل رئيساً للقسم الثقافي بصحيفة “الأيام” السودانية عام 1976م ، وظل على هذا الحال حتى توقفت صحيفة الرأى العام قبل (3) أو (4) سنوات.
كان عيسى الحلو مهموماً بالثقافة إلى هذا الحد وهو يعمل من أجل أن يجعل الثقافة خدمة (حياتية) لا بد منها مثل الماء والكهرباء.
كثيراً ما كنا نظن الثقافة بنطال مرقع أو شعر مبرم وشيء من السرحان والتوهان.
نقل الحلو (الثقافة) من مربع (الكماليات) إلى مربع (الضروريات) – الثقافة عند الحلو لم تكن لهواً أو ترفاً وإنما واجباً حياتياً.
الثقافة عند الحلو أهم من (الدواء)، وضروريتها لا تقل عن ضرورية (الخبز) عمل الحلو على أن يجعلها حقاً للجميع ..توفرها الدولة وتيسرها للشعب كما توفر لهم (الأمن) و (الطمأنينة) و(السلام).
(3)
نحن عرفنا الثقافة والأدب من خلال صلاح أحمد إبراهيم وعلي المك ومصطفى سند والدوش ومحجوب شريف وحميد وعيسى الحلو.
مثل هذه الأشعار والكلمات التي كتبها مصطفى سند لم نكن نجدها إلّا عند عيسى الحلو :
لكأنّما ضاقت بنا الأرجاء
والشمس ارتمت تبكي
وتحتضن السّديم
وهذه الأشواق بعض من أسى ناء
وحشرجة لما قد كان من ماض عقيم
نسعى بها، قدراً علينا ، لا نمل ولا نكل ..ولا نريم
الروّح ماتت ، واحتوت دوّامة الأحزان
أوزاني وأقوالي وإيقاعي وأنفاس الغناء
كنا وما زلنا على باب الرّجاء ..
أن نفتح الأبواب ثانية وأن نجد الهواء
لم نكن نعرف..(السّديم)..وكانت كلمة (حشرجة) يمكن أن تحدث لنا تسمماً لغوياً.
ومصطفى سند يقول – ونحن في هذا المقام الذي ننعى فيه عيسى الحلو :
إني أحبك …
لا تكلني للهواجس والظّنون ..
بأنني قد نمت عنك كما ترى في الرمل
حيث أحط أحرفي القديمة
استدر أسى الشجون
كلا ..وعزّ جبينك المرفوع
في زمن التراجع والكمون ..
إني عبرت رؤى الزّمن ..
إني عبرت المستحيل من المحن..
ورجعت …
كي أسقي ترابك آخر الدمعات والقطرات
التزم التألق مرة أخرى إذا علقت في رمش الوطن..
وتقول يا أغلى ..ويا أزهى ..ويا أسمى ..
ويا أحلى شجن..
إني أحبك ..
يا براءة انتمائي الكبرى…
أحبك يا وطن
سوف نفقد مثل هذا الأدب – الصحافة السودانية لن تجد بعد الحلو من يرتقي بها إلى ذلك المقام…عزاؤنا يبقى في أستاذنا مجذوب عيدروس الذي يعتبر مدرسة أخرى في هذا المجال.
الشاعر والأديب الصحفي الصادق الرضي كتب بعد رحيل الحلو كلمات محدودة في صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي (عيسى الحلو… ما أعجزني الآن عن القول!)..وأظني لا أجد كلمات أبلغ من هذه الكلمات لأنعى الحلو – رحمة الله عليه.
(4)
بغم /
مع هذا الرحيل الموجع – رحل أيضاً الشاعر الثورة محمد طه القدال – الذي نكتب عنه اليوم في صحيفة (ريمونتادا) – حتى لا نخلط الأحزان… ففي كل مقام حزن يختلف عن الآخر.
صحيفة الانتباهة