جرائم وحوادث

الصمت القاتل.. لماذا لا يخبرنا الأطفال عن التحرش؟ https://kushnews.net/2021/08/295574

“كنت أحكي لأمي كل شيء، لكني خشيت أن أحكي لها عن سبب رفضي للذهاب للمدرسة. كنت أبكي وأتمارض وأرفض الذهاب. اعتبرت أمي ما أفعله هربا من المذاكرة. ولم أجرؤ أبدا على إخبارها عن اللمسات القذرة لأستاذ (س) في حجرة الموسيقى المظلمة”. (شهادة من مصدر حي) نظن أننا نربي أطفالنا آمنين، وسعداء. نمنحهم كل ما نستطيعه من معرفة لحمايتهم من شرور العالم، نُحذِّرهم من السكاكين والكهرباء والنار، ومن عبور الطريق دون انتباه لإشارة المرور، ومن الغرباء بالطبع، عشرات التحذيرات اليومية من الغرباء، بينما يقبع الخطر أحيانا هنا، بالقرب منا وتحت أنظارنا؛ ربما في المدرسة أو النادي، أو حتى تحت سقف المنزل نفسه. بينما يستكين معظم الآباء والأمهات إلى شعور بالراحة بعد التنبيهات المتكررة لأبنائهم بالحذر من الغرباء، يبدو أن للإحصائيات رأيا آخر؛ حيث يبدو أن 90% من الأطفال ضحايا الاعتداء الجنسي اعتُديَ عليهم من أشخاص يعرفونهم، 30% من هؤلاء اعتُديَ عليهم من أحد أفراد العائلة، و10% فقط تعرَّضوا للاعتداء من غرباء. لكن الصادم أن 38% فقط من ضحايا الاعتداء الجنسي من الأطفال يُفصِحون عما تعرَّضوا له. (1) يعتقد الكثير من الآباء وفق الجزيرة نت أن أطفالهم سوف يخبرونهم بأي أذى يتعرَّضون له، لكن المؤسف والصادم أن الصمت عادة ما يكون خيار الأطفال. يرجع ذلك لعدد من الأسباب، من بينها مثلا الشعور بالذنب ولوم الذات، حيث يتجنَّب الأطفال الحديث عما حدث لاعتقادهم أنهم مذنبون أو أن اللوم يقع عليهم. هناك سؤال يتكرَّر في رؤوسهم: هل كان الجاني سيتوقف عمّا يفعله إذا صرخوا أو دفعوه؟ أو ما الخطأ الذي فعلوه وجعلهم يتعرَّضون لهذا؟ من جانب آخر، يعاني الأطفال من إحساس عميق بالخزي والعار، وهو ما يجعلهم في بعض الأحيان يختارون الصمت، كي يتجنَّبوا استعادة تفاصيل التجربة عند الحكي عنها. وبالطبع غالبا ما يتلاعب المعتدي بالطفل، قد يُقنعه أن أحدا لن يُصدِّقه، أو أن الطفل هو الذي سيُعاقَب. وفي بعض الأحيان، يُقنع المعتدي الطفل أنه أيضا استمتع بما حدث، أو أنه أراد حدوثه، وقد يُهدِّده كي لا يُخبر أحدا، وهو ما يجعل الطفل يخاف على حياته وحياة أفراد عائلته ويشعر بالخطر. يشعر الطفل أيضا بالخوف من ردود أفعال والديه، هل سيُصدِّقانه إذا أخبرهما؟ وما الذي سيحدث للمُعتدي؟ هل سيُقبَض عليه أم سيبقى حرا؟ تزداد هذه المخاوف إذا كان المُعتدي من العائلة أو الأصدقاء، إذ يشعر الطفل أن إبراز سر بهذا الحجم سوف يُحرِّك حلقات سلسلة من العواقب لا يعرف مداها. بعض الأطفال يخافون من إلحاق الأذى النفسي بوالديهم، ويختارون حمايتهم من هذه الاضطرابات العاطفية وتحمُّل عبء العار واللوم والخوف وحدهم. تلعب مكانة المُعتدي دورا كبيرا في صمت الأطفال، خاصة لو كان المُعتدي عضوا محترما في المجتمع، أو ذا مكانة دينية مرموقة، أو أحد أفراد العائلة المحترمين. وفي كل الأحوال فإن التعرُّض لمثل هذه الجرائم يُحطِّم اعتقاد الأطفال بأن العالم مكان آمن، ويُغيِّر وجهة نظرهم تجاه الحياة. تستنزف مثل هذه الصدمة طاقة هائلة، ولا تمنحهم رفاهية الخضوع للمزيد من الصدمات الناتجة عن الكشف عما أصابهم. (2) أما من جانب الطفل، فإن بعض الأطفال لا يعرفون أصلا كيف يخبرون الأهل بما حدث، ما الألفاظ التي يمكنهم استخدامها؟ بعض العائلات تعتبر الحديث عن كل ما يتعلَّق بالأمور الجنسية محرما، وهو ما يُشعِر الطفل بالخجل والخوف من التحدُّث. أضف إلى ذلك أن بعض المُعتدين يُقدِّمون للطفل امتيازات مادية أو هدايا، أو وضعا أفضل من الآخرين. كما يخشى البعض من تضييق والديهم أو حرمانهم من مزايا معينة إذا أعلنوا عما يتعرَّضون له. (3) وعموما، يعاني الطفل من اختلاط مشاعره في بعض الأحيان تجاه المُعتدي، خاصة إذا ترافق الاعتداء بشعوره بمتعة جسدية أو إثارة، ما يزيد من شعوره بالذنب والمسؤولية. (4) لذلك يجب أن يكون الآباء حذرين في رصد أي تغيرات قد تُخبرهم أن الطفل يتعرَّض للإيذاء. إن ظهور تغيرات سلوكية مفاجئة على الطفل لا بد أن يكون لها سبب ما، وأيًّا كان هذا السبب فإن مهمة الأبوين هي محاولة اكتشافه والتعامل معه. تشمل القائمة هنا أي تغييرات طارئة على سلوك الطفل، مثل وجود ألعاب أو نقود مع الطفل دون معرفة مصدرها، وشعوره بالخوف من الذهاب لمكان اعتاد أن يحبه، وإصابته بالتوتر عند سماع اسم معين، كما تشمل أيضا اضطرابات النوم والشهية، وعدم الانتباه، والتشتت لفترات طويلة، والتدني المفاجئ في الأداء الأكاديمي، ونوبات البكاء المتكرر أو الاكتئاب، وربما أيضا الأفكار الانتحارية والميل إلى إيذاء الذات أو إحداث جروح متعمَّدة في الجسد. هناك علامات أخرى أكثر ارتباطا، مثل ظهور رموز جنسية في رسوم الطفل وأحلامه، ورفضه خلع ملابسه عند الاستحمام، أو تغيير الحفاض، وممارسته ألعابا ذات توجُّه جنسي مع الأطفال الآخرين أو باستخدام الدمى. ربما تظهر إشارات أخرى مثل الميل إلى الغسل المتكرر لليدين أو الاستحمام أكثر من المعتاد، والشعور بالحكة أو وجود روائح كريهة في الأعضاء التناسلية أو ظهور إفرازات غير طبيعية في الملابس الداخلية. وفي كثير من الأحيان، يُصاب الطفل الذي يتعرَّض للاعتداء الجنسي بالنكوص، ويُظهِر سلوكيات وإشارات غير مناسبة لعمره مثل مص الأصابع أو حتى التبول اللا إرادي. (5) (6) يتسع تعريف الاعتداء الجنسي على الأطفال ليشمل أي فعل جنسي بين بالغ وقاصر، أو بين قاصرين يمارس أحدهما سلطة على الآخر، ويشمل الاعتداء ممارسة الجنس، أو لمس الأعضاء الخاصة بالطفل أو تعمُّد رؤيتها أو إجباره على لمس الأعضاء الخاصة بالجاني أو النظر إليها، كما يتسع ليشمل عرض مواد إباحية على الطفل أو التقاط صور إباحية له، أو إرسال الرسائل ذات المحتوى الجنسي عبر الهاتف أو الإنترنت. (7) وبينما نحاول حماية أطفالنا، نحتاج إلى أن نمنحهم الأدوات التي تساعدهم على الإدراك، وأن ندعمهم دون إرباكهم، ودون أن نغرس فيهم الرهبة والتخوُّف من الآخرين، ويبدأ ذلك بتعليمهم حدودهم الجسدية منذ سن مبكرة، وتوعيتهم بالمناطق المحظورة في أجسادهم بألفاظ بسيطة وواضحة. من المهم أيضا أن يتعلَّم الطفل أسماء أعضاء جسده، فعندما يكون لدى الأطفال الكلمات لوصف أجزاء أجسامهم، يجدون أن من الأسهل طرح الأسئلة والتعبير عن مخاوفهم بشأنها. إلى جانب ذلك، من المهم ألا يشعر الطفل بالحرج أو الخجل من قول لا لأي لمسة تجعله غير مرتاح. يُركِّز الكثير من الآباء على أن يتعلَّم الطفل طاعة الأوامر أكثر من تركيزهم على تعلُّم رفض ما يكرهونه. ادعم طفلك إذا قال لا، حتى لو وضعك في موقف غير مريح. على سبيل المثال، إذا كان طفلك لا يريد معانقة شخص ما في تجمُّع عائلي، فاحترم قراره، وعلِّمه أن جسده له وحده وليس من حق أي شخص أن يلمسه رغما عن إرادته. ولأن الجُناة غالبا ما يستخدمون حيلة كتمان السر للتلاعب بالأطفال، دع الأطفال يعرفون أنهم يمكنهم دائما التحدُّث إليك، خاصة إذا طُلب منهم الحفاظ على السر. إذا رأوا شخصا يلمس طفلا آخر، فلا يجب عليهم إخفاء هذا الأمر أيضا. في واحدة من أكبر الفضائح الرياضية التي هزَّت الولايات المتحدة الأميركية، وتحت غطاء العمل الخيري، ارتكب جيري ساندوسكي مدرب فريق كرة القدم الأميركية بجامعة بنسلفانيا 45 جريمة اعتداء جنسي على مدار خمسة عشر عاما. أشارت والدة إحدى الضحايا في شهادتها إلى أن ابنها ناشدها عددا من المرات لعدم الذهاب للتدريب، وهو ما تجاهلته الأم. نحتاج إلى الانتباه لما يخبرنا به أبناؤنا، وما يتجنَّبون قوله أيضا، في بعض الأحيان قد يكون رفضهم للذهاب ﻷحد الأماكن أو رفض مقابلة أحد الأشخاص إشارة خطيرة يتعامل معها الوالدان باعتبارها مجرد تدلل. (8) الأمر الوحيد الأكثر ضررا مما تعرَّض له الطفل هو ألا يُصدِّقه والداه، أو أن يتجاهلا شكواه. حتى لو كانت رواية الطفل تبدو مُفكَّكة أو متضاربة، لا تُشكِّك فيها. لقد أظهرت بعض الأبحاث تأثير الصدمة على الذاكرة، فقد يحدث لبعض الأشخاص فقدان جزء من الذاكرة مؤقتا أو دائما، في آلية دفاعية عندما يواجه الدماغ ما يتجاوز قدراته من الصدمات. وقد وجد الباحثون أن سرد الأحداث الصادمة نادرا ما يتبع نمطا خطيا ومنطقيا. (9) يحمل الاعتداء الجنسي على الأطفال آثارا سلبية طويلة الأمد، حتى إذا بدا أن تجربة الإساءة الجنسية تراجعت في الذاكرة، فربما تعود للطفو على السطح عندما يبدأ الشخص في علاقة زوجية، أو يُنجب أطفالا. وقد تتطفَّل الذكريات على الأحلام وتُحوِّلها إلى كوابيس، وقد تُلازمه مشاعر الذنب وتدني احترام الذات، ما يقوده إلى ممارسات مؤذية للنفس أو أفكار انتحارية. ترتبط تجارب الاعتداء الجنسي أيضا بمخاطر إدمان الكحول والمخدرات ومحاولات الانتحار. يجد بعض مَن تعرَّضوا للإيذاء في طفولتهم أنهم يتجنَّبون العلاقات الحميمية، ولا يثقون في دوافع الآخرين، أو يميلون للدخول في علاقات تستنزفهم عاطفيا، ما يُعرِّضهم للمزيد من الإساءات. (10) يتطلَّب البوح شجاعة كبيرة، وجهدا وطاقة من الطفل، ومنك أيضا، خاصة إن كان الاعتداء من شخص تعرفه وتثق به. هذا الشعور بالخيانة سوف يُحطِّم قلبك، ويُزلزل عالمك، لكن تذكَّر أن بغض النظر عن مدى شعورك بالدمار الداخلي عليك أن تبقى هادئا وثابتا. يبحث الطفل لديك عن إشارات أنه سوف يكون على ما يُرام، يحتاج إلى أن يعرف بأنه مع الدعم والعلاج المتخصِّص يمكنه أن يعيش حياة سوية وسعيدة ومُنتجة. ابدأ بشكر الطفل على إخبارك، وأظهر له دعمك وتصديقك، حتى إذا صعب عليك أن تُصدِّق، واطرح عليه أسئلة توضيحية متجنِّبا أي تشكيك في كلامه، تجنَّب أيضا الأسئلة الإيحائية مثل: “هل لمسك شخص ما هنا؟”، وامنحه الوقت كي يجد كلماته، ولا تضع الكلمات على لسانه، أو تسد ثغرات حكايته بتصوراتك. حاوِل ألا تُظهر انزعاجك، فقد يتراجع بعض الأطفال عند اكتشافهم للألم الناتج عما أفصحوا عنه، لكن هذا التراجع ليس بالضرورة مؤشرا على أن الإساءة لم تحدث حقا. لا تلم الطفل على عدم إخبارك فيما سبق، واحرص على تأكيد أن الذنب ليس ذنبه بأي شكل، وأنه ليس مسؤولا عن بدء ما حدث أو عن عدم إيقافه. وتذكَّر أن قبول الطفل أو حتى طلبه للملامسة الجنسية لا يعني موافقته أبدا، ولا يعفي الشخص البالغ أو المراهق المُعتدي من تحمُّل المسؤولية كاملة، حتى لو أعطى الطفل الإذن أو تصرَّف عن طيب خاطر، فهذا لا يعني الموافقة أبدا. يسلب الاعتداء الجنسي إحساس الطفل بالسيطرة على محيطه، ويُقلِّل من إيمانه بقدرة الكبار على حمايته. احمِ الطفل تماما من الاتصال مع الشخص المسيء، وانتبه لإشارات الطفل حول ما يحتاج إليه لاستعادة الشعور بالأمان. قد يختلف ما يحتاج إليه الطفل عما قد تتوقَّعه، فبناء شعورهم بالثقة والأمان أمر بالغ الأهمية في هذه الأوقات. يُعَدُّ الغضب استجابة طبيعية عندما ينتهك شخص ما إحساسنا بالأمان، اختر الأصدقاء والمهنيين الذين يُمكنهم دعمك في التعبير عن ردود أفعالك. ابحث عن مكان بعيد عن الطفل للتعبير عن غضبك كي لا يفترض أن الغضب موجَّه تجاهه. التهديد بالعنف أو عقاب الجاني قد يُخيف الطفل أكثر، خاصة إذا كان الطفل لا يزال لديه مشاعر إيجابية تجاه ذلك الشخص. يميل الكثير من الناس إلى التعامل مع الكشف عن الاعتداء الجنسي بمفردهم، خاصة عندما يحدث في إطار العائلة، لكن ذلك خاطئ، يجب أن تحصل على الدعم اللازم من أشخاص متخصِّصين. استشِر طبيبا نفسيا، وتذكَّر أنك أيضا قد تحتاج إلى الدعم النفسي. (11) (12) إن الثقة، والمكانة الاجتماعية والعائلية، بل وأحيانا الدينية، هي التي تسمح للمُعتدين بتجنُّب الشك وبناء الفخاخ لضحاياهم الصغار، آمنين أن أحدا لن يتكلم، وأن الصغار إن تكلموا فلن يُصدِّقهم الكبار، وأنهم حتى ولو صدَّقوا فقد يغضون الطرف ويصمتون. في بعض العائلات، يصبح الحفاظ على السمعة المزعومة للعائلة وحمايتها من التفكُّك مسألة حياة أو موت. وإذا ما كان الجاني يتمتع بمكانة أو سلطة، فإن المعتقدات الراسخة حول الطاعة الواجبة أمام السلطة قد تقف عائقا أمام تفجير ما حدث أمام الجميع. عندما يتعرَّض الطفل للإيذاء الجنسي من شخص قريب، يُسيطر ذلك الشعور بالخيانة على الجميع، الطفل والبالغين أيضا، وقد يصبح اعتراف الكبار بهذه الخيانة بمنزلة زلزال يُهدِّد شعورهم بالأمن في هذا العالم. كما تخشى بعض الأُسر من تدخُّل الشرطة وخدمات الحماية الاجتماعية، أو من فقدان المكانة الاجتماعية وتأثير ما يعتبرونه “فضيحة” على بقية أفراد الأسرة. هذا الضغط من أجل الصفح والنسيان، وتجاهل ما حدث كأن لم يكن، يصبح عقبة قوية أمام حماية الأطفال بفعالية من الأذى. ويبدو الاستسلام للصمت ساعتها بمنزلة نبذ لمشاعر الطفل، وامتداد آخر لا نهائي للانتهاكات بحقه. (13) (14) لذلك تذكَّر أن الصمت ليس حلا، وطفلك لن يكون الضحية الوحيدة غالبا. عندما يكون الجاني قريبا، فإن مواجهته بأفعاله وحسابه عليها لن يكون سهلا، لكن تلك هي الضريبة التي يتعيَّن أن تتحمَّلها لحماية طفلك، وغيره، وكسر الدائرة المُفرغة لإفلات المتحرشين بالأطفال من العقاب في نهاية المطاف.

كوش نيوز