حيدر المكاشفي يكتب : البخل السياسي
قديما قال أهلنا البسطاء الغبش (البياكل براهو بيخنق)، وتلك هي فطرة أهل السودان الأصلاء التي ترفض حتى الانفراد بالأكل، ولا يطيب لهم تناول الطعام خلافاً لكثير من الشعوب الا في جماعة، على مائدة أو صينية أو حتى قدح يتحلقون حوله (البوش مثالاً) أو في (الضرا) تحت ظل شجرة أو راكوبة، بل ان بعضهم ما زال يستنكر تناول السندوتشات وصحون الكوكتيل التي تقدم في المناسبات، باعتبارها أكل (فسالة وبخالة)، ولكن يبدو أن بعضنا لم يكونوا على فطرة أهلهم هذه ولم يكونوا يؤمنون مثلهم أن البياكل براهو بيخنق، وقد وضح ذلك عند جماعة النظام البائد عندما تسنموا السلطة وانفردوا بها عبر انقلابهم المشؤوم، ما يؤكد بأنهم على قناعة بأن (البياكل في جماعة لا يشبع)، ولهذا تكالبوا على السلطة والثروة تكالب الأكلة على القصعة حتى اتخموا من مال السحت والحرام و(تدشوا)، ولا يغرنك أن جماعتنا هؤلاء قد (صنعوا) في كل مرحلة من مراحل حكمهم الممتدة، بعض أحزاب الزينة الديكورية وبعض الشخصيات الطامحة والطامعة (فريسوها وتيسوها) على بعض المواقع الهزيلة والهامشية، ليتجملوا ويتزينوا بها تماما مثلما يجمل الأثرياء مساكنهم الخاصة الفاخرة ويزينوها بطيور وأسماك الزينة وغيرها من اكسسوارات وفلكلوريات، ولا يقدح في انفرادهم بالأكل الانفرادي تنازلهم في الانتخابات عن بضع دوائر بطوعهم واختيارهم على طريقة عطية المزين..
ولكن يبدو أن ابتعاد بعضا من جماعتنا هؤلاء من زخم السلطة وبهرجها بعد أن غادروا مكرهين أو مغاضبين المواقع السلطوية بعد سنوات متطاولة قضوها بداخلها، قد أتاح لهم هذا الابعاد أو الابتعاد فرصة للتأمل والتدبر والتفكر في الذي يجري في البلاد بسبب احتكار السلطة والانفراد بالقرار الوطني، فهداهم هذا التدبر والتفكر للتراجع عن قناعتهم السابقة بأن (البياكل في جماعة لن يشبع) وأن الذي يشبع ويستمتع بالأكل هو الذي (يأكل براهو)، وقد حدث لهذا الرهط من هذه الجماعة هذا التحول الايجابي بعد أن وقفوا على خطل وخطر الأكل الانفرادي على ادارة شؤون بلد مثل السودان، ليعودوا الى ما جبل عليه أهل السودان من أن (البياكل براهو بيخنق)، فأطلق بعضهم اعترافات جهيرة بذلك، مثل قولهم أن حزبهم يجد معاناة شديدة في ادارة الدولة بمفرده دون مشاركة الآخرين، أو اعتراف بعضهم بفشلهم في بناء الدولة التي يريدونها، وهذا طبيعي فمن تصعب عليه ادارة الدولة لوحده دون مشاركة الآخرين في حمل هذه التبعة الثقيلة، فانه من باب أولى يكون أعجز في بنائها وفقا لتصوراته الحزبية الخاصة، وعلى كل حال يبقى الانفراد بالسلطة خطرا ليس له حدود يقف عندها، فهو كما عايشنا يبتدئ من اقصاء البعيد حتى يأتي الى القريب ثم الأقرب، والسؤال الآن هل هناك بالفعل سعي جاد لتكون الدولة وتقوم على شراكة وطنية واضحة وشاملة، تجمع شمل كل قوى الثورة وكل الداعمين لها حسبما جاء في مبادرة حمدوك، أم أن الوضع سيظل على حاله حتى يطوف على الجميع طائف وهم نيام ولات ساعة مندم..
صحيفة الجريدة