رأي ومقالات

“قُبّال ما الصور تنشال” .. أرخى الكابلي أوتار جفونه ورحل!


الاسم عبد الكريم الكابلي، تاريخ الميلاد أحد أهم أيام العام (1932)، في تلك المدينة المُشاطئة للبحر، وعند سواكن، سكنت روحك. المهنة شاعر ومُلحن ومُطرب وباحث في التراث السوداني، السكن، كل قلوب المحبين وأهل الفن، يكفي أنك صوت المُعذبين في زمان الناس، حُسنك فاح مشاعر، مزجت ما بين ضنين الوعد، وخال فاطمة، وأرخيت أوتارك مع الدوش حتى أطلت سعاد كسحابة رقصت الدعاش، ثم عبرت مفازات التاريخ إلى العصر العباسي، وحملت عن أبي فراس الحمداني معللته، فرايناه عصي الدمع شيمته الصبر، ثم دلفت إلى فتاة التحرير ورويت لنا”مصرع بضة ذات العينين الطيبتين” وطويت القارات ” آسيا وافريقيا” دون أن يتعب منك جناح، أو تهجر مروي بين رمال ونخيل، فتضع الأجيال في حيرة من أمرها إزاء ذلك القوز الظالم”الشال السيدة وخلي حرم”، كم أنت رائع فينا حين تغني بالفصحى للجندول أو باللهجة السودانية المحببة ” وحات عينا سكر” أو عندما تغوص في التراث تبحث عن العريس ود المك “ماهو الفافنوس ماهو الغليد القوص” ويتحطم صوتك في الحدود المطلقة للصوت، بعيداً في مجاهيل اللغات ” Maria from Bahia”، تبحث عن رب العباد، تناجيه بقلب المؤمن “يارب العـــباد أهـديـت جسومــنا عـقـــول أهدينا الرشاد الفي العمل والقـول”.

وقُبّال ما الصور تنشال، تنعاك المدينة وغاباتها وجبالها وصحاريها، تلقي عليك شمس الصباح والصباح رباح نظرة أخيرة، مثل كل الخسارات الفادحة، مثل أن يرحل النيل أيضاً، مثل أن يسرقنا العالم أجمل مافينا ويهبنا القبح، مثل أن يتوقف القلب عن النبض، ترحل بحسرة العبقرية، ولم نهتم، لم نكترث حين أضعناك، وأي هرم شامخ أضعناه؟ حين افترقنا وبعيننا المُنى قالها الدمع فما أبصرنا شيئا.
في ذلك الشتاء النيفاشي العنيد تحلقوا في قاعة الصداقة قُبالة شارع النيل، جلسوا يتفرسون في وجوه بعض، يتبادلون الابتسامات المنمقة، يتدثرون بأفخم الأزياء والماركات العالمية، وكل منهم يُمني نفسه بنوبل للسلام .. في ذلك الشتاء لم يكن أحد يظن أنه اللقاء الأخير . وقُبّال ما الصور تنشال، وقف رجل من أقاصي المدينة وهو يبشر بعصاه الأبنوسية، والمغني يسترسل في البكاء، كان أوبريت الشريف الهندي يتصاعد عالياً، عالياً في أرجاء المكان، وتتناثر الرسومُ ذاتُ الأصداء مع صوت زغرودة سلام مخنوقة بين اللوزتين، والشريف الهندي يحيط المكان شموخاً ووطنية “سلام يا البقعة مبروكة الإله والدين.. حباب الحرروك لا انتماء لا دين.. حباب السودنوك، خلوك سمارة و زين”.. الفنّ ينشر الخير مثل ما ينشر الهواء اللقاح، أو كما قال أحدهم. في تلك الحظة كان يتحلق حول المسرح، جميع الفرقاء ومنصور خالد، منذها، منذ ذلك اللقاء أرخى الكابلي أوتار عوده وخرج من صالة المغادرة صامتاً حزيناً، خرج في رحلة اللاعودة، ولو شئنا الدقة فلنتواطأ على القول هرب بأحلامه البتول إلى أمريكا ليصبح من سكانها، هرب بأغنياته إلى هنالك حيث يضوع عطر الإنسانية، ولا يبدو الفن محض ترف، ووزارة الثقافة مجرد وزارة مهملة ومسفوحة على شاشة الوطن كمكياج المذيعات..لكن بعادك طال.

خرج صاحب (الجندول) وأحكم خلفه البوابة الزجاجية المقوسة، خرج منكسراً وترك غصة من الألم تنبض في حافة الحلق، ترك الجنوب قد أخذ بعضنا ورحل جنوبا، والتهمته النيران وفتكت به وبنا الأمراض، وخارطة البلاد متهدلة كأحشاء البقرة الذبيحة، ترك أبار البترول قد نضبت، والمساحات الخضراء غطاها الجفاف، وعندما يهاجر المغني تستوي الخيبة والفجيعة، والليل والنهار، هاجر وتركهم يتزاحمون على كراسي السلطة، وذلك القصر المعروش بالأكاذيب، هاجر ولم تعد الدلوكة تدق والناس تعرس وتنبسط بذات الدفء القديم.
“وقُبّال ما الصور تنشال” تحدرت من مقلة النيلين دمعة شاحبة، وتغير طعم المياه ولونها، هاجر المغني وفجعنا بالهجران لأول مرة، هاجر حتى دون أن يكترثوا لغيابه، هاجر وصوته المعتق يملأ المكان حزناً، هاجر الفنان المثقف الذي غنى ليزيد وأبوفراس الحمداني وفتاة التحرير، وأفريقيا وأسيا، وخيالاته اللحنية لم تنضب، هاجر ونحن لم نشبع من سمر لياليه، هاجر من غنى لأي صوت زار بالأمس خياله وخيالنا، وتركهن قابعات في محلات الكوافير بانتظار الميج والأشياء المستعارة وشتول الحناء، ومع ذلك جمالهن يشوبه الواقع السيئ . وبعيد سنوات توسمنا فيه أن لا يكون هو ذاته الخيال الذي لا يرغب في زيارتنا أو أنه يفضل أن يعيش شيخوخته هنالك بلا ضوضاء، ثم يرحل في هدوء على فراش الأحلام الشاهقة، بعيداً، بعيداً عن الوطن.

الواحة_ عزمي عبد الرازق