منى أبوزيد تكتب : في جحيم الآخرين..!
“إلعب مع هويَّتك، لا تدَعهُم يَحكُمونك، تعلَّم أن تَكون وحدَك”.. سادغورو..!
في مسرحيته “لا مَخرج” أورد “جان بول سارتر” عبارة “الآخرون هم الجحيم” – التي ذهبت بعد ذلك مثلاً – على لسان بطلها “غارسيان”، بعد تجربة لا نهائية مريرة عاشها في الجحيم وهو ثالث ثلاثةٍ – امرأتين ورجل – قرّروا تبديد انتظار الجَلَّاد في غرفة الجحيم المغلقة بسؤالٍ دوري يطرحه أحدهم على الآخر “كيف مات، وما هي الذنوب التي قام بارتكابها في حياته السابقة”..؟!
يتطور النقاش فيتَوغَّل كل واحدٍ منهم في أعماق الآخر وينبش أسراره على نحوٍ مؤلم، ثم يحاول كل واحدٍ منهم أن يهرب من جحيم أحكام الآخر، ولكن ليس ثمة مهرب. عندها يضرب “غارسيان” الباب ويصيح معلناً أنه يرضى بكل عذابٍ جسدي عوضاً عن مثل هذا العذاب النفسي، فيُفتَح الباب، لكنه لا يستطيع الخروج بسبب عائقٍ كان يتوهم وجوده، ويبقى داخل الغرفة المغلقة يُعذِّب ويتَعذَّب بتبادل الاتهامات والأحكام..!
هنا يصيح “غارسيان” قائلاً وهو يضحك في سخرية “هذا هو الجحيم إذن، ليس النار والحطب والاحتراق، الجحيم هو الآخرون”. واصفاً بذلك قسوة الطبيعة المعقدة لعلاقات البشر، وطرائق التفكير التي تُبنَي عليها أحكامهم الجانحة نحو التجريم والتخوين والتشكيك والإقصاء..!
ذات الفكرة تقتلها بحثاً – من زاوية الآخر الذي يمثل الجحيم – طقوس ومُناخات مسرحيات الكاتب السويسري الفذ “فريدريش ديرنمات” التي تُمَنطِق فكرة “السقوط الأخلاقي” وتَسوق لها الحجج. حين يكون سقوط النفس المُبرَّر – وفقاً لمقتضياتٍ فنِّية – قراراً لا نُكوص عنه، ولا مجال لترميم عواقبه. أن تخون، أو تكذب، أن تَسرق أو تَجبُن، أن تُؤثر نفسك على الأقربين بمرارة القانع بانعدام الخيار. أو أن لا تفعل، أن لا تكون. وما قد يتحقق إن فعلت، وما قد لا يحدث إن أنت أنِفْتَ عن أن تفعل..!
معيار الضياع وميزان الوصول، ثم كيف ولِمَ يتفاوت البشر الخطاءون في هذه الأحكام بقوانين الواقع، وكم أنهم لا يخضعون لذات “التحكيم” بفلسفة الفن الأخَّاذة الحَادِبة – العَادلة بعد كُلِّ هذا – على وجهٍ ما. هكذا يناقش “ديرنمات” فكرة الضعف البشري تفنيداً وتحليلاً، وتصويراً، بتعرية الشَّـر المختبئ في نفوس أبطال مسرحياته، واللائذ بالأقنعة لحين ظهور “تجسيم” الضمير الذي يُمزِّقُها، فَيُظْهِر – بالتضاد بين صورته الظاهرة وصورتِهَا التي أظهرها وجودُه! – الشر الكامن خلفها..!
وهكذا دوماً تتكشف حقائق الشر عنده، إذ تعول فكرته تلك في نهوضها على مواجهات صارمة بين أبطاله، فتُعرِّي – بذلك – تعقيدات طويَّة الإنسان أمام ذاته قبل الآخرين. يتحقق هذا المعنى عنده بطرائق متنوعة. أما الذي لا يتغيّر – أبداً – فهو إصراره على أن تجئ تلك التعرية – دوماً – في تلافيف حدث دراماتيكي..!
في مسرحيته “زيارة السيدة العجوز” كان البَّقال يُراقِبُ أهل قريته وهم يحفرون قبره بحماسة يزكيها إغراء أموال السيدة الثرية التي كانت تنشد الانتقام منه بتحفيزهم على قتله، لكنها ما لبثتْ أن عفَتْ عنه، تاركةً إياه حيَّاً بين ظهراني من حكموا عليه بالموت، وتاركةً إياهم يعيشون مع عار فعلتهم، وأمام عيني من كادوا يقتلونه لأجل المال..!
وفي مسرحيته “هبط الملاك ببابل” تَبعثُ السماء بفتاة جميلة، تكون هدية لأفقر رجل في بابل. تلك الفتاة لم تكن من نصيب أحد، إذ رفض الجميع التخلي عن أموالهم للفوز بها، فالكل يريدها ويريد المال، وقد رفضتهم هي وفقاً لشرطها، فتركتهم بذلك يكابدون خسارتها التي تُمثِّل حقيقة جشعهم للمال..!
وفي مسرحيته الرائعة “الشهاب” يقوم من مَوتَتِه الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل، الذي أَعلنتْ الإذاعات والصحف نبأ وفاته، فيُصاب بالهَلَع أولئك الذين رأوا في موته “كرامتُهم”، ووجدوا في عودته إلى الحياة كشفاً لأحوالهم، وأوَّلُهم الطبيب الذي أعلن وفاته..!
لقد ظل “ديرنمات” يصور معنى جملة “سارتر” الشهيرة “الآخرون هم الجحيم” في معظم نصوصه المسرحية، وحُقَّ له أن يفعل، لأنه نجح في أن يكسوها – في كل مرَّةٍ- ثوباً قشيباً..!
صحيفة الصيحة