رأي ومقالات

القادم قي السودان حكم مدني شكلاً وعسكري مضموناً

في تقديري أن المشهد السوداني الآن في حالة ارتباك خطيرة وغير مسبوقة، تنبئ بحدوث تغيير جذري وشيك تقوده قوى خارجية حسب الوقائع التالية:

أولاً: تواصل وتزايد الشقة بين المكون العسكري من جهة وتجمع المهنيين ولجان المقاومة من جهة أخرى، علماً بأن تجمع المهنيين هو الجسم الذي قاد انتفاضة سبتمبر 2013 والتي راح ضحيتها مئات الشباب من الجنسين، ثم قاد ثورة ديسمبر 2018 في حراك متواصل لمدة (4) أشهر منذ 19 ديسمبر 2018 حتى 11 أبريل 2019 استشهد فيها المئات، وواصل النضال في اعتصام حول القيادة العامة من 6 أبريل 2019 حتى 3 يونيو 2019 عندما تم فض الاعتصام بغدر غير إنساني أفضى إلى استشهاد وفقدان الآلاف من الشباب والشابات.

تجمع المهنيين ولجان المقاومة يعلنان عن تواصل التظاهرات طوال شهر ديسمبر وبعده حتى إسقاط النظام الذي يحكم منذ 25 أكتوبر 2021، والذي انقلب على الوثيقة الدستورية الموقعة بين الحرية والتغيير والمكون العسكري في 17 أغسطس 2019 وأبعد قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي عن الصورة تماماً.

ثانياً: الإعلان السياسي بين الفريق أول البرهان ود. عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر 2021 وُلد مهزوزاً بصورة واضحة في مراسم التوقيع، إذ أشارت لغة الجسد في د. حمدوك والبرهان إلى ذلك الإهتزاز حيث كان التجهم البائن وعدم القناعة واضحاً في حركات وتعابير الوجهين والجسدين، ولم تعلُ أي بسمة وجه أي منهما وحتى طريقة التوقيع شابها تردد خفي خاصة من د. حمدوك. أحد القيادات العسكرية قال بصوت مسموع في المايكرفون مباشرة بعد التوقيع: (حمدا لله على السلامة)، ما ينبئ بضيق شديد شاب التوصل إلى الإتفاق بمعنى أدق أن كلاً من الطرفين وقّع على مضض، وتحت ضغط مُورس على كليهما من طرف ثالث خارجي في الغالب، د. حمدوك لم يبتسم (كعادته) منذ دخوله القاعة حتى خروجه منها وكذلك البرهان لكن بدرجة أقل. (لغة الجسد عند علماء النفس تعبّر عن كل ما هو مسكوت عنه بدقة).

ثالثاً: سرعة ترحيب أمريكا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالاتفاق وعودة د. حمدوك زاد المشهد إرباكاً، مما حدا بقوى الثورة الحقيقية- تجمع المهنيين ولجان المقاومة- إلى التنديد برسائل الأمين العام للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الداعية إلى قبول اتفاق 21 نوفمبر 2021، ما يعنى الإعتراف وقبول ما حدث في 25 أكتوبر من إنقلاب على الوثيقة الدستورية وقوى الحرية والتغيير المركزية.

رابعاً: بداية حرب التعيينات الجديدة خاصة وكلاء الوزارات وإلغاء بعض التعيينات بعد 25 أكتوبر وإعادة حملة الرفض والقبول واتهام د. حمدوك بالعودة إلى معسكر اليسار الثوري.

خامساً: الفشل في تكوين حكومة منذ 25 أكتوبر حتى 25 ديسمبر 2021 أي (شهرين) (البلد بدون حكومة) حتى 25 ديسمبر الحالي لأن جهتين غير معنيتين بتكوين الحكومة صرحتا الأسبوع الماضي بأن تكوين الحكومة سيتم خلال أسبوعين أي حتى 25 ديسمبر، والجهتان هما بعض أعضاء المجلس السيادي ومجموعة الحرية والتغيير الميثاق، بالرغم من تأكيد الفريق أول البرهان أكثر من مرة أن د. حمدوك له مطلق الحرية في تعيين من يشاء من الوزراء.. د. حمدوك في نزاع بين تكوين حكومة كفاءات مستقلة تماماً وبين مطالب حركات الكفاح المسلح بإعادة وزرائهم في الحكومة المحلولة، إعمالاً لاتفاق جوبا وبذلك كما يرى د. حمدوك سينتفي شرط حكومة كفاءات مستقلة ويفتح الباب مجدداً لدخول وزراء غير مستقلين من بعض الأحزاب كما كان في الحكومة المحلولة.

سادساً: أكثر من جهة تعمل منفردة في إعداد ميثاق جديد بديلاً للوثيقة الدستورية الأصلية الموقّعة في 17 أغسطس 2019، والجهات هذه غير متوافقة سياسياً أو آيدلوجياً ولا توجد منطقة وسطى بينها، عليه أي اتفاق أو إعلان سياسي جديد يقبله المجلس السيادي ود. حمدوك لن ينال الرضا والإجماع مثلما تم في 17 أغسطس 2019، وسوف تتسع شقة الخلاف خاصة إذا قبل المجلس السيادي ود. حمدوك الميثاق الذي يصدر من القوى المناوئة لتجمع المهنيين ولجان المقاومة وهو الأمر الأكثر احتمالاً، وبذلك يزيد الإرتباك في المشهد وتتواصل التظاهرات وتزداد حتى تعطل الحياة العامة في البلاد خاصة العاصمة، ويزداد المشهد تعقيداً خاصة إذا استعملت الأجهزة الأمنية أي قوة مفرطة تؤدي إلى مزيد من الشهداء بين الثوار.

سابعاً: عودة الحرب الأهلية في دارفور بمواجهات عسكرية أفضت إلى مقتل المئات وتشريد الآلاف، أعاد المجتمع الدولي إلى الحديث عن القلق من تجدد حالة عدم استقرار دارفور وعودة النزوح والموت والدمار والإغتصاب، ما يعني وضع اتفاق جوبا وقيادات دارفور الموقّعة عليه في محك يقدح في نجاح اتفاق سلام جوبا.

ثامناً: تواصل أزمة شرق السودان واتساع الشقة بين مجموعة نظارات البجا وبين مؤيدي وموقعي مسار الشرق واتفاق جوبا، مما يجعل احتمال التحول إلى مواجهات مسلحة وارداً خاصة وأن منطقة شرق السودان ذات حساسية وهشاشة بسبب حروب اثيوبيا وتزايد أعداد اللاجئين، والذين عبرهم تدخل المليشيات المسلحة وبعض القوات النظامية المنسحبة من المعارك، والتي سوف يتم استقطابها بواسطة صراعات إقليمية في المنطقة من ثلاث دول هي اثيوبيا وإريتريا ومصر، كل منها له أجندته الخاصة به والتي سيحقق له اضطراب شرق السودان فرصة مواتية لتحقيقها.

تاسعا: تفاقم الأزمة الإقتصادية والمالية في السودان بسبب توقف الدعم الخارجي وشطب الديون وعدم دخول مستثمرين أجانب بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية الخطيرة، عليه أتوقع الآتي:

أولاً: فشل د. حمدوك في إيجاد أرضية ثابتة يعتمد عليها وسوف يقدم استقالته قريباً.

ثانياً: سيحدث استقطاب حاد من القوى الخارجية للمكونات المدنية والعسكرية الداخلية يؤدي إلى حدوث فوضى خلاّقة محدودة ومتحكم فيها ولفترة قصيرة، يعقبها تغيير كامل في المشهد يبعد كل اللاعبين الأساسيين الحاليين مدنيين وعسكريين عبر تغيير مفاجئ لصالح المجتمع الدولي الخارجي الغربي، استباقاً لأي دور يمكن أن تلعبه روسيا والصين خاصة في مسألة موانئ السودان على البحر الأحمر.

ثالثاً: قيام نظام ديمقراطي مدني شكلاً وشمولي أتوقراطي عسكري مضموناً.

بقلم
“مهندس: عمر البكري أبو حراز”