صلاح الدين عووضة

صلاح الدين عووضة يكتب : حبـابـك!!


ما غريب الدار..

ولم تقلها هكذا كما قالها محجوب شريف ترحيباً بانقلاب مايو في بداياته..

وذلك عندما تغنى بها… ولها:

حبابك ما غريب الدار

ومـاك لحـقنا الـــودار

ثم تراجع حين اكتشف أنّ الدار غريب عليها؛ أو – بالأصح – على سياساتها..

أو أنّ سياساتها هذه هي التي غريبة عليه..

وأسوأ ما فيها – السياسات هذه – استسهال قتل رفاق المسير… والمصير..

وبلا أدنى تأنيبٍ من ضمير..

وحين سقط نظام مايو – بثورة أبريل – أنشد شاعر الشعب نفسه يقول فرحاً:

بلا وانجلا

حمد الله ألف على السلامة

انهد كتف المقصلة

يا شارعاً سوى البدع

أزهلت أسماع الملا

كالبحر داوي الجلجلة

وأصل الحكاية أنني دأبت على ممارسة رياضة المشي في شوارع الأحياء..

وأشرت قبلاً إلى سعادتي بالمشي هذا في القاهرة..

حيث لا غبار… ولا أتربة… ولا عاصفة تهب عليك بفعل حافلة هوجاء..

وعكس ذلك تماماً في عاصمتنا هنا..

فما أن أعود من مشواري اليومي هذا حتى أحس كأنني خرجت من القبر..

أو كأنني (بعاتي) يمشي بين الناس..

المهم؛ خرجت يوماً لأجوس خلال شوارع الحي كعادتي عند الأصائل..

ولكن – وخلافاً لعادتي هذه – سرحت في ذلكم اليوم..

سرح مني الخاطر… والعقل… والرجلان؛ فوجدت نفسي بأطراف الحي..

كانت منطقة طرفية غريبة..

فالمكان (ما زي بقية الأمكنة) التي ألفتها بأرجاء حيّنا… وأجوائه… وشوارعه..

وشارعٌ منه (سوى البدع) معي… لا كبدع شاعرنا..

وتحديداً بيتٌ ذو مظهرٍ كئيب في نهايته؛ بدا لي وكأنه مهجورٌ سنين عددا..

بل وكان أقرب إلى خرابةٍ منه إلى منزلٍ مأهول..

وحائطه الغربي المُواجه للشارع الذي أسير عليه متصدعٌ عند منتصفه..

وعندما حاذيته انتبهت لتوهاني… أو سرحاني..

وقبل أن أستدير راجعاً سمعت صوتاً يقول (حبابك؛ خش على الدار)..

فوجمت… ثم وقفت… ثم تلفت..

كان صوتاً مترعاً بلجهة سودانوية عتيقة… كما البيت الذي انطلق منه..

وكما ملامح ذات الصوت هذا نفسها..

أو ملامح وجهها؛ فلم أبصر منها سوى الوجه… من خلف الحائط المتصدع..

وكان لونه يميل إلى سمرة غامقة..

وعندما تبتسم – مع سمرة وجهها هذه – تبرق أسنانها كأنجم في ليلٍ بهيم..

وعلى جانبي وجهها تنسدل ضفيرتان من شعرها..

أو هما إلى ما يُسمى (مساير) أشبه… وتغطيان جانباً من وشوم خديها..

ولثوانٍ خلتني أعرف صاحبة هذا الوجه..

ولكن ذاكرتي لم تسعفني به إلا عند استرجاع أحداث ذلك الأصيل ليلاً..

إنه وجه الروائية السودانية ملكة الدار..

وهي ذات وجه ينضح جمالاً سودانوياً أصيلاً… تماماً كوجه صاحبة الدار..

ولكن هل هي صاحبته فعلاً؟..

لا أظن أن البيت الذي يبدو مهجوراً هذا مسكونٌ… أي مسكون ببشر..

وإن كان مسكوناً بغير بشر فهذا ضد المنطق..

أو – على الأقل – منطقي أنا… حيث لا أؤمن بما هو نقيضٌ لأسس المنطق..

وأصيل اليوم التالي قررت أن أقطع الشك باليقين..

شك الغيبيات بيقين المنطق؛ فانطلقت إلى حيث البيت هذا بأطراف الحي..

ووقفت أمام الحائط المشروم… أو المتروم..

فإذا بالوجه ذاته… والتبسم ذاته… ولمعان الأنجم ذاته… ودعوة حبابك ذاتها..

وهممت بتلبية الدعوة..

وتوجهت نحو الباب الأثري متسلحاً بمنطقي..

ونواصل بإذن الله….. وإلى ذلكم الحين أقول لكل واحدٍ منكم:

حبــابــك!!.

صحيفة الصيحة