صلاح الدين عووضة

صلاح الدين عووضة يكتب : تمثال ملح!!


نظرت إلى الوراء..

وقد كان زوجها حذرها – والآخرين – بعد الالتفات إلى الخلف..

فالنجاة إنما في المضي قدماً إلى الأمام..

وليس التطلع – بندم – إلى ما فات تحسراً على ماضٍ قد لا يكون فيه الخير..

وما كان وراء الزوج – وزوجه – لا خير فيه..

وكذلك ابنتاه؛ وقليلٌ ممن لازم الزوج… ولزم رسالته… والتزم بتوجيهاته..

أو رسالة السماء التي قام بتبليغها..

إنه نبي الله لوط؛ ابن شقيق أبي الأنبياء إبراهيم..

والذي قال الحق عن قريته في كتابه (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)..

وهذا دليلٌ على أن الكثرة لا تعني الحق..

فغالب أهل القرى التي بعث الله فيها رسلاً كفروا برسالات ربهم..

واستهزأوا بالرسل هؤلاء..

وهذه (رسالة) لمن يقيسون الحق بالكثرة؛ فيتمادون في الضلال..

وامرأة لوط كانت على ضلال..

هي وامرأة رسول آخر هو نوح؛ من بين زوجات الرسل أجمعين..

وضلالها يتمثل في عدم إنكار فعل قومها..

بل ومباركته إلى حد أن جعلت من نفسها معينةً لرجال قريتها على الفاحشة..

وهي التي دلتهم على ضيوف زوجها..

وما درت – ولا دروا هم – أنهم الملائكة المكلفون بعذابهم؛ وتدمير قريتهم..

وهم الذين أمروا لوطاً بالخروج..

ولم يمنعوا زوجه الخائنة من الخروج معه؛ على ألا يلتفت منهم أحدٌ..

وقد كان الله يعلم – ورسله هؤلاء – أنها ستفعل..

ولذلك قالوا له كما جاء في كتاب الله (إلا امرأتك فإنه مصيبها ما أصابهم)..

أي إنها ستلتفت؛ وتصير مثلهم..

وبالفعل التفتت؛ وقد كانت تسير خلف زوجها وتتحسر على ما وراءها..

ثم بدافعٍ من التحسر هذا خالفت أوامر زوجها..

أو أوامر الملائكة لزوجها بعد الالتفات؛ وتم توثيق لحظة الالتفات هذه..

توثيقها للذكرى… للعظة… للعبرة..

فقد تحولت – في غمضة عين – إلى تمثال من الملح على جانب البحر..

أو القرية التي صارت بحراً مالحاً هو نفسه..

أو غلبت عليه ملوحة استحالت معها أشكال الحياة كافة..

وربما كان السبب في ذلك أمطار الحجارة ذات الشواظ؛ والكبريت الحارق..

فتجمدت امرأة لوط ملحاً كبريتياً..

وبدت يداها ممدودتين نحو البحر… نحو القرية… نحو مراتع ضلالها..

وكأنها تتحسر على مفارقتها؛ وتتبع زوجها غصبا..

وعن هذا يقول الإنجيل (وتحولت إلى عمودٍ من الملح لأنها نظرت للوراء)..

ويقول (تباطأت ونظرت إلى الوراء فلحقتها أبخرة الكبريت)..

ويقول (نظرت متأسفة على ما خلفته وراءها)..

وما زال تمثال امرأة لوطٍ هذا قائماً إلى اليوم؛ واليدان إلى الأمام..

أو إلى الوراء… إلى حيث ضلالها القديم..

ومن الناس – في يومنا هذا – من هم تماثيلٌ متحجرة تنبض بالحياة..

أو هم أحياءٌ كما الأموات..

ولا يكفون عن التحسر على ضلالات قديمة؛ والنظر إلى ما وراءهم..

وقلوبهم تهفو إليها؛ وأيديهم ممدودة نحوها..

سيما في مجال السياسة التي طورت نفسها إلى أن غدت ديمقراطية..

ديمقراطية ذات حريات؛ وفصل بين السلطات..

ثم انتخابات تفضي إلى تداول سلمي للسلطة… والأفكار… والأحزاب..

لا إلى بحرٍ هادٍ… ساجٍ… ميت..

وعلى ساحله ما يرمز إلى الضلالة… إلى الجمود… إلى التحسر على الماضي..

تمثال ملح!!.

صحيفة الصيحة